هل يمكن أن تَخلقَ دولةَ الحداثة والديموقراطية وحقوق الإنسان في أرض ليس لها أي تاريخ ثقافي في المدنية والحداثة؟ إذا كانت هناك قطعة أرض اجتمعت فيها مجموعة من القبائل المتناحرة والمختلفة عرقياً ومذهبياً وإرثها التاريخي محدود بالغزو أو قطع الطريق، ومُغرق في عالم التخلف وقهر المرأة، فكيف تستطيع أن تؤسس للدولة الأمةَ الحديثة، وتوحّد تلك الجماعات العشائرية التي عاشت مئات السنين في حالة فقر وانقطاع عن عالم المدنية؟ لا يمكن. أدركت الولايات المتحدة هذا متأخراً في أفغانستان. حين غزت أميركا تلك الدولة البائسة كان الهدف الأساسي هو سحق قوى الإرهاب المتمركزة هناك، أي "القاعدة"، وتصورت أنه يمكنها أن تجعل من أفغانستان دولة حداثة مدنية ديموقراطية يصعب أن تتمركز فيها قوى الإرهاب، وتناست أنها هي بدايةً مَن خلق تلك الجماعات المتطرفة هناك أيام الحرب الباردة.
لم تتذكر أميركا سابقة بريطانيا ولا الاتحاد السوفياتي وهزيمتهما هناك، وتناست إدارة بوش في غضبها وردّة فعلها على جريمة الحادي عشر من سبتمبر السياسة الواقعية Realpolitik، التي كان نجومها هانز مورغنثاو وهنري كسينجر، الأول رأى ضرورة تدخل أميركا في فيتنام كي لا تقع بيد الشيوعيين الشماليين، بينما الثاني "كسينجر" وهو صديق مورغنثاو ومن ملته اليهودية ذات الأصول الألمانية رأى أن مثل ذلك التدخل سيكون كارثياً على الولايات المتحدة، وهذا ما حدث بالفعل.صدقت في النهاية رؤية كسينجر رائد المدرسة الواقعية أيام نيكسون، مثلما أملت هذه الواقعية السياسية لدى كسينجر بالتدخل المخابراتي لقلب نظام حكم سلفادور إليندي في تشيلي عام 1973 الرئيس المنتخب قانونياً كي لا تتمدد الشيوعية في أميركا الجنوبية وتكرر تجربة كوبا، أيضاً عارض كسينجر تدخل الولايات المتحدة في العراق لقلب نظامه لذات الأسباب الواقعية في فيتنام، إلا أن الرؤية المثالية لكوندليزا رايس مستشارة بوش الابن كانت مختلفة في احتلال العراق، وانتهينا اليوم بتجارب ديموقراطية فاسدة في بعض الدول العربية.هل الديموقراطية ممكنة في غياب الثقافة التاريخية، مع هيمنة سلطة الفكر الديني المتزمت والمذهبية والقبائلية؟ وهل الديموقراطية مجرد صناديق اقتراع فقط يحق فيها للأغلبية أن تهيمن على الأقليات؟ وماذا يكون الحكم عندما تتعارض الحرية مع الديموقراطية ونكون بالتالي مع حالة استبداد الأغلبية وتحجرها، ولنا في الكويت "شبه الديموقراطية" تجربة مُرة تجرعناها قبل أيام مع "صنم" مول 360 أو منع الدورة النسائية للرقص، وضربت هذه الحكومة أسخف مثل في تسطّح الوعي لديها، حين سايرت واسترضت قوى التزمُّت فيها، بحجة أنها تمثل الشعب...هل تعلمت الولايات المتحدة الآن أن أفغانستان ليست اليابان بعد الحرب، وأن العراق ليس ألمانيا أيضاً بعد الحرب الثانية؟! هي قضية ثقافة وإرث تاريخي أسسا في أوروبا بداية من عصر التنوير حتى الثورة الصناعية، ومازالت شعوبنا العربية الغارقة في خرافات وأوهام الماضي بعيدة عنها تماماً.
أخر كلام
أفغانستان ليست اليابان وليس العراق ألمانيا
22-08-2021