يصادف هذا الخريف الذكرى العاشرة منذ أن طرحت إدارة أوباما مقاربة "إعادة التوازن إلى آسيا"، فقد أعلن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أمام البرلمان الأسترالي في عام 2011 أن الولايات المتحدة بدأت "تُحوّل أنظارها نحو القدرات الهائلة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ".في تلك الفترة، كان المسؤولون الأميركيون يدركون المخاوف الشائعة حول الالتزامات الأميركية في المنطقة والشكوك باستعدادهم لتنفيذ وعودهم المفرطة، وبعد مرور عشر سنوات وانتهاء عهدَين رئاسيَين، من الواضح أن الولايات المتحدة لم تلتزم بكلامها، فقد شددت إدارات أوباما وترامب وبايدن في خطاباتها وبياناتها على أهمية آسيا بالنسبة إلى مستقبل الولايات المتحدة، وتكلم القادة الجمهوريون والديمقراطيون في الكونغرس عن أهمية المنطقة وأطلقوا مواقف صارمة بشأن المنافسة مع الصين، لكن غالباً ما تكون هذه الخطابات منفصلة عن السياسات الأميركية الفعلية والميزانيات والأهداف الدبلوماسية.
اليوم، يؤكد الرئيس جو بايدن "عودة الولايات المتحدة إلى الساحة" بدورها القيادي التقليدي، وقد كانت مقاربة إدارته الأولية تجاه آسيا صائبة على مستويات عدة، لكن لا يتطلب تنفيذ طموحات بايدن في آسيا وضع رؤية معينة فحسب، بل يجب أن يضمن المعنيون تنفيذها أيضاً، وفي المرحلة المقبلة، يجب أن تعالج الإدارة الأميركية والكونغرس الاختلاف الدائم بين الخطابات الطموحة والتحركات الضعيفة، كما حصل خلال العقد الماضي. ويجب أن يتجدد التركيز على أجندة إيجابية واستراتيجية خاصة بالمنطقة بدل اعتبار الالتزام الأميركي رداً على الصين، ويُفترض أن تُطرَح أجندة استباقية في مجال التجارة والتكامل الاقتصادي وتتوسع الموارد الدبلوماسية والعسكرية الأميركية في المنطقة. قد تسهم هذه الاستراتيجية في ضمان المصالح الأميركية المرتبطة بالسلام الإقليمي والأمن والازدهار ومستقبل القيادة الأميركية في آسيا.
الأفعال أهم من الأقوال!
غالباً ما تُلام أطراف أخرى على التحديات التي تواجهها واشنطن في آسيا، لكن تثبت أحداث السنوات العشر السابقة أنها تشتق أيضاً من إخفاقات الرؤية الأميركية واستراتيجية واشنطن وخطواتها التنفيذية، فقد أحدثت إدارة ترامب مجموعة من الأضرار بنفسها، لكن اتضحت الشوائب قبل بدء هذا العهد الرئاسي بوقتٍ طويل.اليوم، تبدو إدارة بايدن مُصمِّمة على إعادة ترسيخ القيادة الأميركية إقليمياً وعالمياً، حيث قام وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، حديثاً برحلة ناجحة إلى جنوب شرق آسيا، وستتجه نائبة الرئيس كامالا هاريس إلى المنطقة قريباً، لكن يتطلب نجاح الإدارة الأميركية في آسيا تجنب أخطاء الإدارات السابقة وردم الفجوة المتكررة بين خطابات واشنطن وأفعالها، ويجب أن تستخلص الإدارة والكونغرس دروساً عدة من التاريخ الحديث لتطوير استراتيجية أميركية متجددة في آسيا.في المقام الأول، بات الخطاب الأميركي بشأن آسيا يُركّز بدرجة مفرطة على الصين ولا بد من إعادة تعديله لتنفيذ رؤية إيجابية للمنطقة كلها، ففي معظم الأوقات، يجمع القادة الأميركيون بين المواقف الصارمة حول الصين واستراتيجية إقليمية فاعلة، لكنّ التركيز على بكين يُضعِف فاعلية هذه المقاربة وينفي أهمية الدول الأخرى في آسيا، مع أنها تؤدي دوراً محورياً في توجيه مستقبل المنطقة وتحديد سلوك الصين. يجب أن تنطلق الاستراتيجية الخاصة بالصين من الاستراتيجية الإقليمية إذاً لا العكس، فقد أصبحت "المنافسة بين القوى العظمى" مرحلة حاسمة خلال عهد ترامب، لكن هذه الشعارات لا تقدم توجيهات ملموسة كثيرة للقادة في واشنطن، وبدرجة أقل لنظرائهم الخارجيين، والأسوأ من ذلك هو أن التركيز على المنافسة الأميركية الصينية يحرم الولايات المتحدة من تفوّقها الاستراتيجي الأكبر، أي شبكة الدول التي تتقاسم جزءاً كبيراً من مصالحها ومعظم قِيَمها.اعترفت إدارة بايدن بأهمية التعامل الصائب مع آسيا، لكنها لم تضع بعد أي أجندة إقليمية إيجابية وشاملة لجذب مجموعة من الدول المتنوعة، ويجب أن يحاول القادة الأميركيون توسيع شراكات واشنطن وتعميقها في مسائل الأمن والاقتصاد والتكنولوجيا والحوكمة، وتتطلب كل شراكة منها تحالفات مختلفة تتغير تركيبتها بحسب المسألة المستهدفة والظروف القائمة، ولن تعزز هذه المقاربة التعاون مع الدول الآسيوية سعياً إلى تحقيق الأهداف المشتركة فحسب، بل إنها ستفرض ضغوطاً كبرى على الصين أيضاً لدفعها إلى التنافس بطريقة إيجابية في المنطقة. باختصار، يمرّ المسار المؤدي إلى توسيع هامش السلام والازدهار في المنطقة ببقية دول آسيا أولاً وبالصين ثانياً.يتعلق عنصر أساسي من أي أجندة إقليمية إيجابية بتطوير استراتيجية اقتصادية واضحة في آسيا، ففي عام 2016، كتب كيرت كامبيل، الذي أصبح اليوم كبير المستشارين في الشؤون الآسيوية في البيت الأبيض، أن "الاقتصاد والأمن على ارتباط وثيق في آسيا... لذا يجب أن تتحسن الكفاءة الاقتصادية في صلب السياسة الخارجية الأميركية"، وقد كان هذا التقييم صحيحاً حينها ولم يتضح إلا بسبب لجوء بكين إلى أسلوب الإكراه الاقتصادي لتحقيق أهداف سياستها الخارجية. يرحّب معظم الخبراء في شؤون جنوب شرق آسيا بالالتزام الاقتصادي الأميركي، لكن العدد نفسه تقريباً يشعر بالقلق من تنامي النفوذ الاقتصادي الصيني في المنطقة، فالجميع مستعدون لتقبّل المبادرات الأميركية إذاً لكنّ واشنطن لا تتحرك.أدى ابتعاد واشنطن عن جهود تسريع التكامل الاقتصادي الآسيوي إلى تضرر مكانتها الخاصة وكبح قدرتها على صياغة ودعم نظام إقليمي مستقر، وما من خيار واقعي بديل عن إعادة التفاوض حول العودة إلى "الشراكة العابرة للمحيط الهادئ" التي تُسمّى اليوم "اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ"، وكما كان متوقعاً، أثبتت تجارب الإدارة السابقة أن الرسوم أحادية الجانب واتفاقيات التجارة الثنائية لن تعيد صياغة القواعد الاقتصادية الإقليمية ولن تجبر الصين على تغيير سلوكها.لعقد أي اتفاق تجاري شامل وقادر على فرض النظام في آسيا، سيكون "اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ" الحل الوحيد، فمن غير الواقعي أن تبدأ أي مفاوضات حول اتفاق تجاري منفصل ومتعدد الأطراف، ولن يكون أي اتفاق تجاري رقمي كافياً، لا سيما في الاقتصادات النامية في جنوب شرق آسيا، حتى أن بريطانيا عبّرت عن نيّتها الانضمام إلى "اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ" كجزءٍ من حملتها الخاصة في آسيا، فمنذ عشر سنوات، اعتبرت إدارة أوباما "الشراكة العابرة للمحيط الهادئ" أهم اختبار يمرّ به الالتزام الأميركي الاقتصادي في المنطقة، وإذا كانت إدارة بايدن عاجزة عن إقناع الشعب الأميركي والكونغرس باتفاق الشراكة الشاملة، فقد تصبح المزاعم المرتبطة بعودة الولايات المتحدة إلى الساحة فارغة المضمون برأي الكثيرين في آسيا.يُفترض أن تُعطى الأولوية أيضاً لتكثيف الجهود الدبلوماسية في أنحاء المنطقة، لا سيما في جنوب شرق آسيا، حيث بدأت المعلومات تتسرب حول التعيينات المنتظرة في مناصب دبلوماسية أساسية، لكن سبق أن مرّ نحو سبعة أشهر على بدء عهد بايدن ولم يُعيَّن بعد أي سفير في الدول الخمس الحليفة للولايات المتحدة في آسيا أو رابطة أمم جنوب شرق آسيا أو الصين.على صعيد آخر، يجب أن يسافر بايدن شخصياً إلى آسيا في الخريف المقبل ويلقي هناك خطاباً رفيع المستوى لتحديد الأهداف الأميركية وتخصيص موارد حقيقية خدمةً لتلك الأهداف، وفي الحالة المثلى، يُفترض أن يحصل ذلك الخطاب في جنوب شرق آسيا (في جاكارتا مثلاً) ويترافق مع خطاب تكميلي في الولايات المتحدة لإقناع الشعب الأميركي بزيادة الاستثمارات في المنطقة والانضمام إلى "اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ".أخيراً، يجب أن تتعاون الإدارة الأميركية مع الكونغرس لعكس وجهة ميزان القوى العسكري الذي يبتعد راهناً عن الولايات المتحدة وحلفائها، وسيتطلب ترسيخ نظام ردع في آسيا على الأرجح تعديلات في حجم الوجود العسكري في أماكن أخرى، مما يعني برأي البنتاغون تقليص القوات العسكرية في الشرق الأوسط. حين يحصل ذلك، يجب أن يتعاون البنتاغون مع حلفائه وشركائه الآسيويين لتطوير استراتيجية قوية ومبنية على مبدأ "الردع بالحرمان" بهدف إقناع بكين بأنها لن تستطيع تحقيق أهدافها في آسيا عبر استعمال القوة، لا سيما ضد تايوان، وتتطلب هذه الاستراتيجية أن تُكثّف وزارة الدفاع استثماراتها في الصواريخ التقليدية طويلة المدى، والغواصات، ومنصات الضربات الخفية، تزامناً مع تعزيز الوجود الأميركي المتقدم في أنحاء شرق آسيا.بما أن الولايات المتحدة تعهدت في البداية بإعادة التوازن إلى آسيا، برزت فجوة مزعجة ومتكررة بين خطابات واشنطن وأفعالها، وتكمن المسؤولية الحقيقية في الإدارات الأميركية التي تسلمها الحزبان الجمهوري والديمقراطي وفي الكونغرس، فمن الناحية الإيجابية، يبدو بايدن ملتزماً بالتعددية والقيادة الاستباقية في آسيا، مما يتعارض بكل وضوح مع نهج سلفه، لكن بعد مرور أكثر من نصف السنة الأولى على بداية عهده، تسود مخاوف من أن يعيد التاريخ نفسه أو يحمل الأصداء عينها على الأقل، وإذا أرادت إدارة بايدن أن تنفذ وعدها أمام حلفاء واشنطن وشركائها حول "عودة الولايات المتحدة إلى الساحة"، فيجب أن تُطوّر وتنفذ استراتيجية شاملة وإيجابية في آسيا وتتذكر الدروس المستخلصة من أحداث العقد الماضي.لا أهمية لعدد المرات التي يعلن فيها المسؤولون الأميركيون أو قادة الكونغرس أن الولايات المتحدة تنافس الصين أو تغيّر محاورها أو تُجدد التوازنات أو تُوجّه تركيزها نحو آسيا، الأهم من ذلك هو طبيعة أفعالها على أرض الواقع.