تواجه الولايات المتحدة معضلة شائكة في بحر الصين الجنوبي، حيث بدأت بكين تُغيّر الوضع القائم هناك لمصلحتها، لكن منذ عام 2016، تتردد دول جنوب شرق آسيا في التصدي للصين بصرامة رغم إضعاف حقوقها القانونية في تلك المنطقة.

لا تستطيع الولايات المتحدة والدول التي تحمل التوجهات نفسها أن تغيّر سلوك الصين بحراً من دون مشاركة ناشطة من تلك الدول الإقليمية، لكن في معظم بلدان جنوب شرق آسيا، لاسيما الفلبين وفيتنام، تُقيّم النُّخَب الحاكمة والرأي العام ككل التزام الأميركيين بشؤون هذه المنطقة بناءً على استعدادهم للدفاع عن حقوقها البحرية.

Ad

تابع الرئيس الأميركي جو بايدن وفريقه تطبيق معظم سياسات إدارة ترامب في بحر الصين الجنوبي، ودعمت الإدارة الأميركية الراهنة موقف فريق ترامب الذي يعتبر المطالب البحرية الصينية، التي لا تتماشى مع قرار المحكمة الخاصة في عام 2016 غير قانونية.

كذلك، أكدت إدارة بايدن ضرورة أن تردّ الولايات المتحدة على أي هجوم يستهدف القوات الفلبينية في بحر الصين الجنوبي بموجب بنود المعاهدة التي تلتزم بها، وقد تابعت تسريع العمليات البحرية الأميركية التي صمّمتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في تلك المنطقة.

فتحت زيارة وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى مانيلا حديثاً المجال أمام إعادة إحياء السياسة الأميركية في بحر الصين الجنوبي، دائماً كانت الفلبين الأكثر نشاطاً من بين دول جنوب شرق آسيا، لكنها حاولت في عهد الرئيس رودريغو دوتيرتي توثيق علاقاتها مع بكين وأضعفت روابطها مع واشنطن، وتعهد دوتيرتي بإلغاء "اتفاقية القوات الزائرة" التي تُسهّل دخول العسكريين الأميركيين إلى البلد، لكنه أعلن خلال زيارة أوستن أنه سيوقف عملية الإلغاء، وقد منح هذا التحوّل متنفساً جديداً للتحالف الأميركي ـ الفلبيني وعزز مكانة واشنطن للتصدي للتصرفات الصينية الشائبة.

يجب أن تستغل إدارة بايدن هذه الفرصة لتحديد أسس أي تحالف دولي لدعم نظام بحري مبني على قواعد واضحة، ومن خلال التخطيط لزيادة الدعم لجهود تحديث الجيش الفلبيني ونشر المعدات العسكرية الأميركية بالتناوب، بما في ذلك منصات إطلاق الصواريخ في الفلبين، ستتمكن واشنطن من تقوية نظام الردع على المدى القصير، ومن خلال تكثيف الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية ضد بكين على المدى الطويل، قد تزيد سهولة إيجاد حل سلمي ومنصف للنزاعات البحرية قبل أن تتلاشى فرص عقد التسويات بالكامل.

تحوّل في مواقف مانيلا

بعد أشهر من الجهود الدبلوماسية وراء الأبواب المغلقة خلال عام 2020، اقتنع دوتيرتي مرتَين بضرورة "تعليق" قراره بإلغاء "اتفاقية القوات الزائرة".

بذلت إدارة بايدن هذه الجهود بعد استلامها السلطة، فتعاونت بكل هدوء مع الأوساط الدفاعية الفلبينية لعقد اتفاق قد يوافق عليه دوتيرتي.

قبيل زيارة أوستن إلى مانيلا، أعلن نظيره أن "مُلحَقاً" لاتفاقية القوات الزائرة أصبح جاهزاً كي يوقّع عليه دوتيرتي، مع أن بنوده لا تزال غير واضحة. ثم اجتمع أوستن ودوتيرتي وأعلن الرئيس أنه سيبطل عملية إلغاء الاتفاقية بالكامل، ونتيجةً لذلك، تبدو "اتفاقية القوات الزائرة" ومصداقية التحالف الأميركي الفلبيني بأمان الآن.

لكن ما سبب هذا التحوّل في المواقف؟ تتعلق المسببات السياسية المباشرة على الأرجح بتسليم الولايات المتحدة لقاحات "موديرنا" إلى الفلبين والفخر الذي شعر به دوتيرتي بعد زيارة أوستن، لكن ترتبط العوامل الكامنة الأخرى التي دفعت دوتيرتي إلى تغيير رأيه بضغوط الأوساط الدفاعية الفلبينية والنُّخَب السياسية المحلية، إذ تشعر هذه الجهات بقلق متزايد من تصرفات الصين المتسلطة بحراً.

في فبراير الماضي، اكتشف الفلبينيون أكثر من 200 سفينة ميليشياوية بحرية صينية في مساحة "ويتسون ريف" المتنازع عليها في جزر "سبراتلي". رداً على ما حصل، كثّفت مانيلا وتيرة دورياتها نحو جزر "سبراتلي" وجزيرة "سكاربورو شول" وأطالت مدتها. كذلك، زادت فاعلية سفنها خلال تلك الدوريات، فطالبت بكل صرامة بأن تغادر السفن الصينية المساحات والمياه التي تطالب بها الفلبين.

فرص متزايدة للتحرك

الآن وقد تجددت "اتفاقية القوات الزائرة"، تستطيع الأوساط الدفاعية الأميركية والفلبينية أن تضع خططاً طويلة الأمد لتعزيز التعاون الأمني وتحسين الردود في الحالات الطارئة.

مع اقتراب رحيل دوتيرتي من السلطة في الصيف المقبل، يجب أن يُركّز الطرفان على وضع أسس لتسريع تنفيذ "اتفاقية التعاون الدفاعي المُعَزز" في عهد خَلَفه، ويُفترض أن يكثّفا الزيارات المتبادلة مثلاً والتدريبات المشتركة بقيادة الدوريات الأميركية والطائرات القتالية في قواعد "لوزون" و"بالأوان".

قد تسهم هذه الخطوة في تقوية نظام الردع وتهيئة الظروف السياسية للمرحلة المقبلة من النقاش حول التحرك من موقع قوة، فتقتنع أي إدارة فلبينية مستقبلية بدعم استعمال منصات الصواريخ الأميركية متوسطة المدى بالتناوب لردع الاعتدءات الصينية بحراً.

في غضون ذلك، يضمن تغيّر موقف دوتيرتي تجديد الزخم اللازم لإطلاق الجهود الدبلوماسية الرامية إلى احتواء التحركات الصينية في بحر الصين الجنوبي، يجب أن تثق الدول التي تحمل التوجهات نفسها حول العالم اليوم بأن الفلبين لن توقف تحالفها مع الولايات المتحدة أو تُضحّي بمطالبها الإقليمية لتوثيق روابطها مع الصين.

وحتى لو لم تطبّق حكومة دوتيرتي قرار المحكمة الصادر عام 2016 بالكامل أو تعمل على إنشاء تحالف دولي لدعم حقوقها، فسيتخذ خَلَفه هذه الخطوة على الأرجح.

في هذا السياق، يتابع فريق بايدن الجهود التي بدأت في عهد ترامب لإقناع الدول الأخرى بمعارضة مطالب الصين ودعم قرار المحكمة، ولم تُحقق هذه المساعي نجاحاً كبيراً في البداية، فقد شعرت الدول الأوروبية بالقلق من دعوة الصين إلى الالتزام بذلك القرار بينما ترددت الدول الإقليمية التي تحمل مطالبها الخاصة، بما في ذلك الفلبين، في اتخاذ خطوة مماثلة، لكن هذا الوضع قد يتغير غداة التحولات الأخيرة في أسلوب وتكتيكات مانيلا وهانوي، تزامناً مع تعزيز التعاون الأميركي الفلبيني غداة القرار المرتبط باتفاقية القوات الزائرة.

مواقف قانونية

أوضحت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة جزءاً كبيراً من مواقفها القانونية حول بحر الصين الجنوبي في السنة الماضية، فرفضت جوانب عدة من مطالب الصين البحرية، وفي الشهر الماضي، دعا وزير الدفاع الألماني نظيره الصيني للمرة الأولى إلى الالتزام بقرار المحكمة عام 2016، وكانت ألمانيا أول دولة تتخذ هذا القرار في الاتحاد الأوروبي، على أمل أن تحذو دول أخرى في أوروبا حذوها.

تتزامن هذه الخطوات مع زيادة التركيز الأوروبي على الأمن البحري في المنطقة، وقد اتضح هذا التركيز عبر التطورات البحرية الفرنسية الأخيرة ومرور مجموعة من حاملات الطائرات البريطانية، بدعمٍ من السفن الهولندية والأميركية، في بحر الصين الجنوبي.

يجب أن تقتنص إدارة بايدن هذه الفرصة لبناء تحالف معني بزيادة التكاليف التي تتكبدها بكين مقابل تحركاتها العدائية في بحر الصين الجنوبي، ويجب أن تُشجّع الأطراف الأخرى على تشديد مواقفها حول هذه المسألة في المنتديات الدولية، وتشكّل القمة المباشرة الأولى في الخريف المقبل بين قادة الحوار الأمني الرباعي (يشمل الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا) فرصة مهمة أخرى.

كذلك، يجب أن تستفيد الولايات المتحدة من حملة التشهير العلنية التي أطلقتها الفلبين وفيتنام ضد الميليشيا البحرية الصينية في "ويتسون ريف". ويُفترض أن تطلب واشنطن الدعم من جهات إقليمية وخارجية أخرى، فتنظّم جهوداً استطلاعية دولية لرصد وتصنيف المراكب الميليشياوية الصينية التي تحاول إخضاع سفن دول أخرى. قد تحاكي هذه الجهود الدوريات المنسّقة بين الجهات الإقليمية والأوروبية في بحر الصين الشرقي والبحر الأصفر لرصد الشحنات غير القانونية التي تنقل بضائع خاضعة للعقوبات إلى كوريا الشمالية، كما يجب أن يتلقى حلفاء واشنطن وشركاؤها المعلومات المرتبطة ببحر الصين الجنوبي لحشد الدعم اللازم لفرض العقوبات على شركات الصيد الصينية والشبكات البرية الداعمة لها والمتورطة في هذه التصرفات القسرية.

في الوقت نفسه، يجب أن تعترف الولايات المتحدة وجهات خارجية أخرى بأن مستوى العدائية التي يمكن أن تبديها دول جنوب شرق آسيا يبقى محدوداً، إذ تتأثر هذه الدول بالصين اقتصادياً وبغياب الثقل الجيوسياسي اللازم لفرض تكاليف كبرى على بكين، لذا يجب أن يستعد شركاء هذه الدول الخارجيون للعب دور الشرطي السيئ، فيسمحوا للفلبين وفيتنام بتقديم عروض للصين تمهيداً لعقد تسوية معينة، بينما تواجه بكين تكاليف متزايدة مقابل مخالفاتها الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، ستزيد جاذبية التفاوض لإيجاد حل مناسب لهذا الصراع.

لكن الوقت بدأ ينفد، في حين تفرض الصين اليوم سيطرة متزايدة على المياه المتنازع عليها ويبدو المسار المؤدي إلى حل يرضي جميع الأطراف ضيقاً، مع ذلك، يستطيع الأميركيون وشركاؤهم الإقليميون التحرك فوراً، فيتعاونون في ما بينهم لتقوية النظام المبني على القواعد في بحر الصين الجنوبي.

بوني غلاسر وغريغوري بولينغ