حين بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها عملية الإجلاء من كابول في 15 أغسطس الجاري تزامناً مع وصول حركة "طالبان" إلى العاصمة الأفغانية، قررت الصين إبقاء سفارتها هناك مفتوحة وزعمت أنها مستعدة لإقامة علاقات ودّية مع "طالبان". اجتمع مستشار الدولة ووزير الخارجية الصيني وانغ يي مع ممثلين عن "طالبان" في أواخر شهر يوليو في "تيانجين" لمناقشة مسار المصالحة وإعادة البناء في أفغانستان، وخلال ذلك الاجتماع، وافقت "طالبان" على عدم دعم الانفصاليين الأيغوريين الذين يهددون الاستقرار في شينجيانغ، ومع عادة الصين بعدم التدخل في شؤون الدول الخارجية، فإنها تتوقع من الأطراف الأخرى أن تطبّق السياسة نفسها، وبناءً على هذا المبدأ، قد تُطور الصين وأفغانستان في عهد "طالبان" روابط جديدة.
تسيء الدول الغربية فهم السياسة الصينية تجاه "طالبان" أحياناً، لكن تعكس هذه السياسة مقاربة الواقعية السياسية التي تطبّقها الصين والطموحات التي تحملها من "مبادرة الحزام والطريق" في آسيا الوسطى وجنوب آسيا، قد تُسرّع العلاقات الجديدة بين بكين وكابول تطوير برنامج الاتصال الصيني الرائد في المنطقة عبر بناء منشآت جديدة للبنى التحتية، لكن قد لا يتمكن نظام "طالبان" من تنفيذ نسخة "ناعمة" من "مبادرة الحزام والطريق" التي تشمل برامج تتراوح بين التعليم والصحة من دون إحراز تقدّم عميق في هذا المجال. مع ذلك، قد تسمح الفرص الهائلة التي تقدّمها هذه المبادرة الصينية بإضعاف نزعة "طالبان" الأصولية.
«طالبان» والنسخة «الصلبة» من «مبادرة الحزام والطريق»
تم التوقيع على أول مذكرة تفاهم حول "مبادرة الحزام والطريق" بين أفغانستان والصين عام 2016، ثم جرى الاتفاق على مبادرات عدة بين البلدين، لكن بسبب النشاطات الإرهابية، نُفِّذت مشاريع قليلة في إطار "مبادرة الحزام والطريق"، كذلك تزيد صعوبة بناء الطرقات في أفغانستان بسبب الظروف المناخية والجغرافية هناك.ونظراً إلى غياب الشبكات المناسبة وانعدام الأمن المتفشي في كل مكان، لم يتم استكشاف الموارد المعدنية الأفغانية غير المستغلة بدرجة كافية بعد، وإذا نجحت "طالبان" في إعادة الاستقرار إلى أفغانستان، فقد تستثمر الصين في قطاعات عدة، بما في ذلك التعدين.لكن الصين تعتبر الاستقرار في أفغانستان شرطاً مسبقاً لتطوير "الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني" وضمان نجاحه، علماً أنه جزء أساسي من "مبادرة الحزام والطريق". في باكستان، بدأت الصين تستثمر مليارات الدولارات لبناء الطرقات والمناطق الاقتصادية الخاصة والموانئ، لكن بسبب الظروف الجغرافية والاضطرابات السائدة مع الهند في كشمير، بالكاد تبقى مدينة "كاشغر" الصينية مرتبطة بذلك الممر وتتأخر المشاريع دوماً.في جنوب باكستان، تُطوّر الصين ميناء "جوادر" وتطمح لتحويله إلى معقل أساسي لمصادر الطاقة، لكن يجب أن يصبح الميناء الجديد محطة للغاز الطبيعي القادم من آسيا الوسطى عن طريق أفغانستان كي يحصد الأرباح المتوقعة، غير أنه لا يمكن التخطيط لأي نظام نقل عبر الطرقات أو خطوط الأنابيب في هذا البلد الغارق في الحرب. بعد إرساء نوعٍ من السلام النسبي في أفغانستان تحت حُكم "طالبان"، قد تُخطط الصين وباكستان معاً لافتتاح منشآت جديدة للبنى التحتية للربط بين ميناء "جوادر" الباكستاني وآسيا الوسطى. وبعد بناء تلك الشبكات، سيصبح هذا الميناء أيضاً أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب، وتحديداً من منطقة الخليج، علماً أنهم كانوا يترددون حتى الآن في استثمار أموالهم في "جوادر" بسبب غياب الفرص الواعدة.كذلك، قد يمنع النظام الجديد في كابول نشوء المشاكل في باكستان حيث تم استهداف المشاريع الصينية، حيث تزعم باكستان أن أجهزة الاستخبارات الهندية والأفغانية كانت متورطة في هجوم "داسو" الإرهابي في 14 يوليو الماضي، حيث قُتِل عدد من المواطنين الصينيين على يد حركة "طالبان" الباكستانية، وقد تسمح العلاقات الحسنة بين باكستان و"طالبان" بتحسين البيئة الأمنية لمشاريع البناء الصينية في "الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني".النسخة «الناعمة» والمعقدة من «الحزام والطريق»
يمكن تنفيذ النسخة "الصلبة" من مشاريع "مبادرة الحزام والطريق" بنجاح تحت حُكم "طالبان"، لكن لا تقتصر هذه المبادرة على بضعة موانئ أو سكك حديد، بل تهدف أيضاً إلى تسهيل التجارة والتبادلات بين الصين والعالم. تشمل "مبادرة الحزام والطريق" عدداً كبيراً من العناصر "الناعمة" التي تتراوح بين "طريق الحرير الصحي" و"طريق الحرير الرقمي"، وتعتمد هذه المبادرات كلها على عامل الابتكار، وللمشاركة في "مبادرة الحزام والطريق"، يجب أن تصبح "طالبان" أكثر انفتاحاً على التغيرات الحاصلة وتطبّق الإصلاحات التي تتماشى مع المصالح الصينية.تميل الدول الناشطة في "مبادرة الحزام والطريق" إلى تكرار النموذج الصيني المبني على الحوافز الخاصة المعروضة على الشركات، مع أن درجة نجاحها تبقى متفاوتة، فضلاً عن تطبيق إصلاحات خاصة أخرى حيث تُعطى الأولوية للتعليم. ولحصد منافع طويلة الأمد من "مبادرة الحزام والطريق"، يجب أن تُغيّر حركة "طالبان" وجهة نظرها حول التعليم إذاً وتتبنى النموذج الصيني الذي يعطي الأولوية للعلوم، في الوقت نفسه، تريد الصين أن تُغيّر "طالبان" موقفها من النساء. على صعيد آخر، تتوقع الصين من "طالبان" أن تُحسّن موقفها من الأقليات العرقية والدينية في أفغانستان إذا أرادت الانضمام إلى "مبادرة الحزام والطريق". في الماضي، اتُّهِمت "طالبان" بارتكاب تطهير عرقي ضد أقليات مثل جماعة الهزارة، لكن سيؤدي استمرار هذه الانتهاكات إلى زيادة مخاطر الاعتداءات الإرهابية ضد منشآت البنى التحتية التي تنوي الشركات الصينية بناءها في أفغانستان. كذلك، قد تُهدد ممارسات الفصل العنصري والمضايقات بحق الشيعة أو الأوزبك العلاقات مع دول مجاورة مثل إيران أو أوزبكستان، وتعوق تطوّر مشاريع إقليمية ومتعددة الأطراف تنوي الصين تمويلها وتشييدها. في غضون ذلك، يجب ألا تُحوّل "طالبان" أفغانستان إلى وجهة للإرهابيين الراغبين في التخطيط لاعتداءات في شينجيانغ أو دول أخرى تدعم "مبادرة الحزام والطريق في آسيا الوسطى لأن الصين لن تتحمل هذا الوضع لأي سبب.أخيراً، يجب أن تعالج "طالبان" مسائل حُكم القانون ومحاربة الفساد أيضاً، ورغم الاتفاق على مشاريع استثمارية ضخمة بين الحكومتَين مستقبلاً ومشاركة الشركات الصينية المملوكة للدولة في هذه المشاريع، ثمة حاجة إلى تطبيق إصلاحات قانونية متماسكة بما يتماشى مع الشريعة الإسلامية ومع القوانين الصينية أيضاً كي تنجح أفغانستان في جذب الاستثمارات من الشركات الصينية الخاصة والأصغر حجماً. من دون التأكد من حرص "طالبان" على حماية الاستثمارات الصينية في أفغانستان، قد تتردد بكين في تطوير مشاريع كبرى في هذا البلد.إذا لم تتدخل الصين مباشرةً في شؤون أفغانستان الداخلية لإقرار هذه التعديلات، من المتوقع أن تعمد الدول الأخرى المقرّبة من "طالبان"، على غرار باكستان أو دول الخليج التي تقدّم دعماً قوياً لمبادرة "الحزام والطريق"، إلى الضغط على السلطات الجديدة في كابول لتطبيق مجموعة إضافية من السياسات الداعمة للصين. في المقابل، سيؤدي استمرار الفوضى في أفغانستان إلى تهديد مشاريع "الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني" في باكستان، وهو حدث لا تستطيع إسلام أباد تحمّل كلفته.في النهاية، تُعتبر العناصر "الناعمة" و"الصلبة" في "مبادرة الحزام والطريق" وجهَين لعملة واحدة، يستطيع نظام "طالبان" أن يُسهّل إنشاء البنى التحتية من جانب الصين في أفغانستان، لكن من المستبعد أن تنجح الحركة في تطوير النسخة "الناعمة" من المشروع لأن هذه العملية تتطلب تغيير نظام "طالبان". لكن إذا نُفّذت "مبادرة الحزام والطريق" بالشكل المناسب في نهاية المطاف، فقد تنجح الصين في إرساء وضعٍ طبيعي في أفغانستان بطريقة عجزت عنها سنوات الحروب والاحتلال والتدخل الخارجي.