مدينة النور دون نور *
![خولة مطر](https://www.aljarida.com/uploads/authors/982_1671286347.jpg)
هناك طوابير للمازوت والبنزين والخبز والمولدات وحتى الماء الذي بدأ هو الآخر بالاختفاء التدريجي.. بلد ينابيع الماء النقية الذي تغنى به فريد الأطرش، ورقصت عنده صباح، وتغزلت فيروز بكلماتها الرقيقة به، هو نفسه يبحث عن قطرة ماء ليدفع ثمنها بـ«الفرش دولار» أيضا.. يقول اللبناني لولا أولادي وبناتي وعائلتي في الخارج لتحولت إلى إنسان الكهف، فكل بدهيات الحياة هي ترف في ترف في لبنان اليوم، لبنان الآن، لبنان الحاضر في القرن الحادي والعشرين. كم هو محزن أن تعشق مدينة النور التي كنت تتسلل لها كلما خنقتك مدن الملح تلك، حيث تترك لساقيك العنان فتمشي من مقهى إلى آخر ومن مكتبة إلى كشك جرائد بشارع الحمرا، حيث ينصحك البائع بقراءة هذه المقالة أو عمود الرأي ذاك لهذا الكاتب أو حتى يحدثك عن آخر رواية قرأها ويناقشك في تفاصيل السياسة الدولية وازدواجية معايير الولايات المتحدة وتحيزها لإسرائيل، أو كيف دمرت العراق ذاك البلد العريق الآخر الذي يعاني ويئن كما لبنان وسورية.. مذهل كم يتساوى العرب في معاناتهم اليومية، ويقارنون فيما بينهم فتقول تلك الفنانة الصديقة في رسالة صوتية «قلقانين عليكم في بيروت فنحن أوضاعنا بتضل أفضل بشويه» تبقى «الشويه» هذه النسبية جداً تفرق بين عربي هنا وآخر هناك في تلك المدينة، حيث تجمعهم الطوابير نفسها رغم تباعد المسافات بمئات الكيلومترات وآلاف الكيلومترات الضوئية عن العالم الآخر!! يبرمج المواطن في هذه المدن أيامه على الساعات التي تأتي فيها الكهرباء والماء إذا «تكرمت» وحضرت، وإذا تكرم المسؤولون وأخبروه بمواعيدها وإلا فتداهمهم العتمة ليلا والحر الخانق في رطوبة أغسطس (آب) نهاراً. تغيرت مواعيد الأكل والنوم والقيلولة وحتى العادات الغذائية تغيرت فاللحم شح أو أصبح بعيد المنال أو للمناسبات السعيدة والدجاج «الفروج» أيضا ليس في المتناول، والخضراوات إما ملوثة أو «أورغنك» باهظة الثمن! هذه يوميات الغالبية العظمى لكنها تعيش متوازية مع يوميات مختلفة، بل متناقضة حيث العربات الفاخرة آخر موديل، والبنزين المتوافر لمشوار الكوافير، وعمليات التجميل بالدولار والمطاعم بفواتيرها المليونية! ومنتجعات ونواد ليلية وموسيقى وصخب بعيداً عن صخب المعارك اليومية على الخبز والبنزين والمازوت.. يعيش العالمان متوازيين حد المرض، وكأن هذا لا يعرف ذاك أو كأنهما في كوكبين بعيدين.. تدخل السيدة محل المجوهرات وتخرج بما قل حجمه وارتفع ثمنه، وتمضي قريبة من ذاك الذي ينبش في مكبات الزبالة عن بقايا طعام.. أو تنهر ذاك الطفل الذي يمد يده لها لتعطيه خمسة آلاف ليرة ليحضر منقوشة الزعتر ويسد جوعه.. خمسة آلاف ليرة في اليوم نفسه الذي أصبح سعر الدولار الواحد 20 ألف ليرة! ترقد بيروت في عتمتها تبحث عن نور كان، هي ومثلها مدن وعواصم عربية أصبح فيها الأمل في صباحات أيامها هو توافر الكهرباء والماء والخبز والدواء ودمتم!* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية