حديث أهل الشام اليومي متشابه جداً حد التطابق، وهو يختلف بعض الشيء عن تلك المدن البعيدة والقريبة أيضاً، فيبدأ وينتهي بالسؤال عن الكهرباء والبنزين والماء ومن ثم توابعها من التواصل والإنترنت وزيارة الأحبة والبعد عن المدن الساحلية الرطبة إلى نقاء ولسعة برودة الجبال.. حديث يبدو سريالياً في عام 2021 وفي هذا القرن وهذه البلدان والمدن التي لم تعرف إلا كونها مدناً للنور وإشعاعات للثقافة والمدنية والعلم والحرية، حتى لو كانت في بعض الأحيان قاصرة فقد حافظ أهل بلاد الشام على كثير من فضاءاتهم، وعندما تسلّل العسس إليها خلقوا لغات جديدة، وفتحوا كوة في جدار يبدو أنه يزداد علواً كل يوم إلا أنهم بقوا يحفرون ويحفرون دون ملل عن فضاء لأوكسجـــين لا تراقبه عيونهم الثاقبة.كل لقاء في بلاد الشام يبدأ حديثه عن ساعات الكهرباء الرسمية، ثم ساعات «الموتور»، أي المولد الكهربائي الذي بحاجة إلى مازوت، والمازوت مفقود يا ولدي مفقود، أو موجود طبعا لمن يتحمل مبالغ السوق السوداء.. هي مرحلة انتعاش للسوق السوداء من الدولار، فسعره في السوق قد يصل إلى العشرين ألف ليرة لبنانية ومثله أو أكثر الليرة السورية.. والبنزين في المحطة بسعر وفي المحطة نفسها بسعر آخر لمن يملك «فرش دولار» لأي لمن يتسلم دولاراً جديداً، فالقديم نهبته البنوك أو تحفظت عليه أو احتجزته في سوابق لم تشهدها حتى أكثر الحكومات فشلا وفساداً وتخلفاً!!
نسي اللبنانيون البراد واكتفوا بصناديق الثلج أو قطعة الثلج الملفوفه بالخيشة كما كان أجداد جدادهم قبل أن تصل الكهرباء إلى البلدات الجبلية، إنما المدن فقد كانت دوما سباقة لكل التقدم، ولكنها الآن تزحف تدريجياً نحو الانحدار في بئر لا قعر لها ربما، فكلما قال اللبناني أو اللبنانية هذه أسوأ مرحلة تسارعت وتيرة الانهيارات وعلى كل الصعد ليكتشفوا أن بئرهم أعمق من كل آبار الكون ربما!! مدينة النور دون كهرباء ومدينة الموسيقى والمسرح والفن الراقي والفرح معتمة حد الخوف.. شوارعها نهاراً خالية إلا من طوابير السيارات المتسولة للبنزين، وليلاً ترقد بيروت في عتمة لم تعرفها حتى في سنوات حربها الأهلية الطويلة. هناك طوابير للمازوت والبنزين والخبز والمولدات وحتى الماء الذي بدأ هو الآخر بالاختفاء التدريجي.. بلد ينابيع الماء النقية الذي تغنى به فريد الأطرش، ورقصت عنده صباح، وتغزلت فيروز بكلماتها الرقيقة به، هو نفسه يبحث عن قطرة ماء ليدفع ثمنها بـ«الفرش دولار» أيضا.. يقول اللبناني لولا أولادي وبناتي وعائلتي في الخارج لتحولت إلى إنسان الكهف، فكل بدهيات الحياة هي ترف في ترف في لبنان اليوم، لبنان الآن، لبنان الحاضر في القرن الحادي والعشرين. كم هو محزن أن تعشق مدينة النور التي كنت تتسلل لها كلما خنقتك مدن الملح تلك، حيث تترك لساقيك العنان فتمشي من مقهى إلى آخر ومن مكتبة إلى كشك جرائد بشارع الحمرا، حيث ينصحك البائع بقراءة هذه المقالة أو عمود الرأي ذاك لهذا الكاتب أو حتى يحدثك عن آخر رواية قرأها ويناقشك في تفاصيل السياسة الدولية وازدواجية معايير الولايات المتحدة وتحيزها لإسرائيل، أو كيف دمرت العراق ذاك البلد العريق الآخر الذي يعاني ويئن كما لبنان وسورية.. مذهل كم يتساوى العرب في معاناتهم اليومية، ويقارنون فيما بينهم فتقول تلك الفنانة الصديقة في رسالة صوتية «قلقانين عليكم في بيروت فنحن أوضاعنا بتضل أفضل بشويه» تبقى «الشويه» هذه النسبية جداً تفرق بين عربي هنا وآخر هناك في تلك المدينة، حيث تجمعهم الطوابير نفسها رغم تباعد المسافات بمئات الكيلومترات وآلاف الكيلومترات الضوئية عن العالم الآخر!! يبرمج المواطن في هذه المدن أيامه على الساعات التي تأتي فيها الكهرباء والماء إذا «تكرمت» وحضرت، وإذا تكرم المسؤولون وأخبروه بمواعيدها وإلا فتداهمهم العتمة ليلا والحر الخانق في رطوبة أغسطس (آب) نهاراً. تغيرت مواعيد الأكل والنوم والقيلولة وحتى العادات الغذائية تغيرت فاللحم شح أو أصبح بعيد المنال أو للمناسبات السعيدة والدجاج «الفروج» أيضا ليس في المتناول، والخضراوات إما ملوثة أو «أورغنك» باهظة الثمن! هذه يوميات الغالبية العظمى لكنها تعيش متوازية مع يوميات مختلفة، بل متناقضة حيث العربات الفاخرة آخر موديل، والبنزين المتوافر لمشوار الكوافير، وعمليات التجميل بالدولار والمطاعم بفواتيرها المليونية! ومنتجعات ونواد ليلية وموسيقى وصخب بعيداً عن صخب المعارك اليومية على الخبز والبنزين والمازوت.. يعيش العالمان متوازيين حد المرض، وكأن هذا لا يعرف ذاك أو كأنهما في كوكبين بعيدين.. تدخل السيدة محل المجوهرات وتخرج بما قل حجمه وارتفع ثمنه، وتمضي قريبة من ذاك الذي ينبش في مكبات الزبالة عن بقايا طعام.. أو تنهر ذاك الطفل الذي يمد يده لها لتعطيه خمسة آلاف ليرة ليحضر منقوشة الزعتر ويسد جوعه.. خمسة آلاف ليرة في اليوم نفسه الذي أصبح سعر الدولار الواحد 20 ألف ليرة! ترقد بيروت في عتمتها تبحث عن نور كان، هي ومثلها مدن وعواصم عربية أصبح فيها الأمل في صباحات أيامها هو توافر الكهرباء والماء والخبز والدواء ودمتم!* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
مدينة النور دون نور *
30-08-2021