ينسب إلى القائد ﺍﻟﻤﻐﻮﻟﻲ «جنكيز خان» أنه عندما عجز عن اقتحام مدينة «بخارى» كتب لأهلها: «من وقف معنا فهو آمن»، فانقسم المحاصرون بين جانب مستسلم ومن ثم متعاون، وآخر ثابت حتى النصر أو الشهادة، وبعد أن بسط المغول سيطرتهم سارعوا إلى ذبح المتعاملين على وقع مقولة قائدهم الشهيرة: «لو كان يؤمن جانبهم لما غدروا بإخوانهم من أجلنا نحن الغرباء». لقد كان لافتاً، دون أن يكون مستغرباً، ما نقلته وسائل الإعلام المرئي من مطار «كابول» الذي شهد فوضى عارمة تعكس حالة الهلع التي يعيشها الأفغان المتعاونون مع الولايات المتحدة الأميركية عقب السيطرة المفاجئة لحركة «طالبان» على معظم الأراضي الأفغانية بأسلحة وآليات يرجّح كثيراً أنها من مخلفات القوات الأميركية المنسحبة، وذلك مع حضور قوي لـ«جبهة المقاومة الوطنية» الوريث الشرعي لـ«تحالف الشمال» بقيادة «أحمد شاه مسعود»، الطاجيكي المرضي عنه أوروبياً والمتلقي تعليمه في إيران، والمتحصّن مع قواته في وادي «بنجشير» الصعب التضاريس.
وقد سبق ذلك قبل سنوات، غرابة سيطرة «داعش» خلال أيام على جزء كبير من دولتين متراميتي الأطراف، وغرابة اختفائها بغفلة من الزمن، الأمر الذي لا يقل غرابة عن «الخطأ» الذي أعلنته القوات الأميركية حين أسقطت طائراتها كمية مهولة من العتاد والمؤنة على مخيمات التنظيم الإرهابي في حين أنها كانت متجهة لدعم القوات الكردية الحليفة على الحدود السورية-التركية، وذلك استتباعاً لما سبق أن شهده العالم من حروب- مدعومة إعلامياً، مرهقة اقتصادياً، وقاسية إنسانياً- ضد إرهاب «القاعدة» والمجموعات الأصولية، خرجت منها الدول والشعوب أكثر فقراً وتخلفاً وتعصباً وانقساماً! وفي خضم كل ذلك ينعقد مؤتمر بغداد «للتعاون والشراكة» الذي حاز اهتماما أميركيا-أوروبيا واضحا ودالا، وتمثل الحضور الإيراني فيه بوزير خارجيتها «عبد اللهيان» الذي حطت طائرته عقب المؤتمر مباشرة في دمشق ليتحدث من هناك عن «ترتيبات إقليمية جديدة مقبلة» بعناوين اقتصادية، سياسية وأمنية، يأتي في مقدمتها «إنهاء الوجود العسكري الأميركي» في سورية، وانسحاب قوات واشنطن من العراق نهاية العام، ناهيك عن ملف النفط اللبناني و»مصير إمدادات الوقود» التي طلبها حزب الله من إيران. وبالدخول الى الشأن اللبناني، برزت في الآونة الأخيرة بعض الدعوات للتوجه السياسي شرقاً وللتكامل الاقتصادي مع كل من سورية والأردن والعراق، وفي السياق، استعجل رئيس الحكومة العراقية قبيل سفره الى الولايات المتحدة الأميركية بدعوة الجانب اللبناني لتوقيع صفقة يتم من خلالها تزويد لبنان بكميات من النفط الخام، كما أعلن أمين عام حزب الله، بلهجة حاسمة وقوية، انطلاق باخرة نفط إيرانية باتجاه الشواطئ اللبنانية بكسر واضح للحصار الدولي على الجمهورية الإسلامية، وبصمت أميركي-إسرائيلي مريب، قد يكون مقصوداً لإيصال رسالة القبول أو الضعف! وبخطوة مفاجئة وسريعة تلت مباشرة الإعلان عن انطلاق الباخرة الإيرانية، قامت السفيرة الأميركية في لبنان بالكشف رسمياً عن مساعي حكومتها مع الأردن لزيادة إنتاج طاقته الكهربائية باستخدام الغاز المصري تمهيداً لاستجرار الكهرباء الى لبنان عبر الأراضي السورية، الأمر الذي يلفت النظر الى التوقيت والمضمون بما لا يمكن أن يتلقفه المحور المناهض «للشيطان الأكبر» إلا تحت عنوان انتقال السياسة الأميركية من الفعل الى ردة الفعل، وبخاصة أن المسعى الأميركي- في حال تحققه- يتطلب تعاون النظام السوري الذي يخضع لعقوبات اقتصادية أميركية من خلال قانون «قيصر»! وفي هذا الحدث أو ذاك، يهلل المتحمسون لهزيمة مفترض «للأميركيين»، حيث يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية تتعمد الانكفاء التكتيكي كجزء من خطتها الاستراتيجية الكبرى، وبغالب المنطق، الذي لا أراه تعلّقاً تقليدياً بنظرية المؤامرة، يركّز المخطط الأميركي للعقد اللاحق على استهداف «مبادرة الحزام والطريق» الصينية دون التورط بمواجهة مباشرة مع النظام «الأحمر»، وذلك من خلال توجيه ضربة استباقية لمقومات نجاحها وإدخال «دول المسار» في حالة عدم استقرار أمني يعدم أو يقلص فرص الاستثمار فيها. وفي السياق تقوم الولايات المتحدة الأميركية بإلهاء الدبّ الروسي ومعه الدول والتيارات المتحالفة ولاسيما الشيعية، ببعض العسل، المتمثل بانتصارات لحظية من شأنها أن تبقي الشرق منشغلاً بتداعيات رعب «البدر السني» من تنامي قوة «الهلال الشيعي»، مع الحرص التام على إبقاء روسيا ما بعد «بوتين» أسداً من ورق أضعف من أن يخيف «العم سام» وأعجز من أن يشاركه فيما سيتفرد به مستقبلاً من غنائم لا يمكن أن يتصور حجمها أو يتوقع طبيعتها أولئك المنتشون بالانتصار أو المستسلمون للواقع والهزيمة المستدامة! ما نراه اليوم تظهر مفاعيله غداً، وما يُكتب في الكواليس سيتبلور لاحقاً على خشبة المسرح بالكيفية التي أرادها المنتج وخطّها الكاتب وتصوّرها المخرج، فما يجري من أفغانستان الى لبنان هو، بعبارات بسيطة ومؤلمة، في سياق المخطط لإبقاء بلادنا منهكة اقتصادياً واجتماعياً، تتنازعها الصراعات بين أطراف الإسلام السياسي على اختلاف مذاهبه وأفكاره، ويتحكم في مفاصلها الرئيسة ظهور مفاجئ لعملاء مموهين بمسميات جاذبة أو بأشكال لافتة، بلحى طويلة أو بربطات عنق أنيقة، وسينتهي مصيرهم الى ما قاله وفعله «جنكيز خان» بعد أن يكونوا - وللأسف - قد نجحوا في جرّ مجتمعهم الى نفق الانتحار الجماعي. * كاتب ومستشار قانوني
مقالات
جنكيز خان... وعبداللهيان... و«الأميركان»
01-09-2021