دروس مفيدة لروسيا أزمة القيادة الأميركية
شمل أول خطاب ألقاه الرئيس الأميركي جو بايدن، بعد مشاهد الفوضى والمأساة التي رافقت استرجاع حركة «طالبان» سيطرتها على العاصمة الأفغانية كابول، عدداً من التداعيات البارزة بالنسبة إلى روسيا. لقد طرح صيغة جديدة عن المهمة الأميركية في أفغانستان ودول أخرى حيث تولّت واشنطن الإشراف على العملية الانتقالية نحو الديمقراطية.أعفت الولايات المتحدة نفسها من المسؤولية في نهاية المطاف لأن الجنود الأميركيين، كما قال بايدن، «لا يستطيعون أن يخوضوا حرباً لا تريد القوات الأفغانية خوضها بنفسها ويموتوا خلالها»، كذلك، أعاد بايدن تعريف المهام الأميركية باعتبارها تهدف بشكلٍ حصري إلى ضمان أمن الولايات المتحدة غداة هجوم 11 سبتمبر الإرهابي ضد الأراضي الأميركية، وبالتالي لا يتعلق الهدف الفعلي ببناء الأوطان أو إرساء الديمقراطية.ما الاستنتاجات التي تستطيع روسيا استخلاصها إذاً من هذا التفسير الجديد والضيق للمهام الأميركية في الخارج؟
تكشف تجارب الشرق الأوسط أن المقتنعين بحصول معجزة ديموقراطية في أي مكان عن طريق الجهود الخارجية المناسبة مخطئون: لن تكون النتيجة النهائية مشابهة لليابان بل لأفغانستان، ولا تحصل هذه المعجزات إلا من الداخل وتكون هذه العملية طويلة دوماً، وفي الوقت نفسه لا يعني الانسحاب من أفغانستان أن الغرب سيتخلى عن مواقعه بسهولة في الأماكن الأخرى.بعد هزم «القاعدة»، لم تتبقَ للولايات المتحدة أي مصالح كبرى تعجز عن التخلي عنها لأي سبب في أفغانستان، لكن ذلك لا يعني أنها لا تملك مصالح مشابهة في أماكن أخرى أو أنها ستتخذ الخطوة نفسها هناك.سيكون أي تقييم من الخبراء الاستراتيجيين في الكرملين متهوراً وخطيراً إذا افترضوا تلقائياً أن هزيمة تكتيكية في مكان واحد ستتكرر في جميع الظروف المحتملة الأخرى، بل يجب أن يشكك الجميع بالموقف الأميركي المرتبط بإنهاء حروب الآخرين وإعطاء الأولوية لأمن البلد: إذا سمحت الظروف باسترجاع امتيازات الولايات المتحدة المفقودة كدولة قيادية وحليفة، ستقتنص واشنطن تلك الفرصة حتماً بقوة متجددة.على صعيد آخر، من الخطير أن يشمت أي طرف بهزيمة خصم جيوسياسي تزامناً مع التعاطف مع حركة «طالبان»، فقد حاول عدد كبير من المعلقين في روسيا وأوكرانيا معاً تطبيق منطق الأحداث الحاصلة في أفغانستان على أماكن أقرب إلى البلدين: قد تنذر التطورات الأخيرة بهرب الأميركيين من كييف مثلما غادروا كابول حديثاً، أو ربما يرحل الروس من «دونيتسك».حركة «طالبان» هي قوة يُحسَب لها حساب لأنها تشمل رجالاً ليس لديهم ما يخسرونه حرفياً، لكن لا يمكن قول الأمر نفسه عن معظم الدول الأخرى، إذ يُعتبر المتشددون الإسلاميون بعيدين كل البعد عن أكثر الحركات تحفظاً بعد الحقبة السوفياتية، كما أن موقفهم المعادي للأميركيين لا يجعلهم تلقائياً أصدقاءً لموسكو ودول آسيا الوسطى.تجدر الإشارة إلى أن إدارة «طالبان» السابقة في أفغانستان كانت الحكومة الوحيدة في العالم التي اعترفت بجمهورية الشيشان إشكيريا التي تشير إلى المنطقة الروسية الانفصالية في عهد شامل باساييف وأصلان مسخادوف.اليوم، ستضطر روسيا للاختيار بين متابعة علاقاتها الحسنة مع «طالبان» أو دعم حلفائها التقليديين في شمال أفغانستان، أي الأفغان الأوزبك والطاجيك الذين يلوّحون بأولى مؤشرات المقاومة منذ الآن، كما فعلوا خلال التسعينيات، وحتى لو حاولت موسكو هذه المرة ابتكار مقاربة أكثر توازناً، فستشتبه حركة «طالبان» دوماً بتحرك روسيا ضدها في الشمال.على الجانب الغربي، يسود احتمال خطير بالقدر نفسه إذا حاول محبو «اللعبة الكبرى» إعطاء طابع دولي لهزيمتهم: ما الذي يمنع «طالبان» التي هزمت الأميركيين من متابعة مسارها وهزم الروس والصينيين وأنظمة آسيا الوسطى أيضاً؟ لحسن الحظ، لا تزال هذه الأصوات خافتة حتى الآن مقارنةً بمن يدركون مخاطر هذا النوع من المواقف. للوهلة الأولى، قد يبدو المفهوم الأميركي الأكثر تحفظاً لمعنى المهام الخارجية سلبياً بالنسبة إلى الأوساط السياسية والعامة في الدول غير الغربية، بما في ذلك روسيا، لكن قد يتبين في نهاية المطاف أنه يترافق مع جانب إيجابي.إذا كان الغرب ينوي فعلاً إخماد رغبته في إعادة تشكيل المجتمعات الأخرى من الخارج بناءً على قيمه ومؤسساته الخاصة، فستتمكن الدول الأخرى من استعمال تلك القيم والمؤسسات نفسها بلا خوف لأنها لن تُعتبر مجرّد حِيَل وأفخاخ جيوسياسية لتسهيل التوسع الأجنبي، بل ستشبه ما كانت عليه أصلاً في المجتمعات الغربية التي انشغلت بإحراز التقدم لاكتساب القوة وتطوير نفسها: إنها أدوات مهمة للتنمية الاجتماعية والتحديث الداخلي.