المرونة غائبة في سياسة الصين الخارجية
خلال حوار استراتيجي رفيع المستوى بين الولايات المتحدة والصين في "أنكوريغ"، ألاسكا، في شهر مارس الماضي، أطلق مستشار الدولة الصينية، يانغ جيتشي، الانتقاد التالي: "الولايات المتحدة غير مؤهلة للتحاور مع الصين بأسلوب متغطرس ولن يتقبل الشعب الصيني هذا الموقف"، وحظي هذا الكلام بترحيب واسع في الصين وحملت قمصان قطنية ومنتجات أخرى هذه الكلمات وانتشرت وسط الشعب الصيني. يدرك الجميع اليوم أن الدبلوماسيين الصينيين باتوا أكثر قوة في تصريحاتهم منذ أبريل 2020، انطلاقاً من مقاربة اسمها "دبلوماسية الذئب المحارب"، فلا تُعتبر الدبلوماسية الفظة ظاهرة مستجدة في الصين أو أي مكان آخر، لكن يعكس التغيير البارز في الأسلوب هذه المرة دخول الصين مرحلة حساسة جداً حيث يضطر الدبلوماسيون وجميع المسؤولين الحكوميين والسياسيين الصينيين لتوخي الحذر في أقوالهم وأفعالهم. منذ أن تسلم الرئيس شي جين بينغ السلطة، سعت بكين إلى طرح نفسها كقوة أكثر عدائية وثقة بنفسها، وزادت سهولة هذه الجهود بفضل عوامل مثل نجاحها الظاهري في السيطرة على وباء كورونا وتحقيق شكلٍ مبكر من التعافي الاقتصادي، وبدأ الدعم الذي تحصده إدارة شي جين بينغ يتوسع بشكل عام. لكن يحمل هذا الوضع جانباً مختلفاً، وهو يتعلق بعدم السماح بتوجيه أي انتقاد أو هجوم، من مصدر خارجي أو محلي، من دون الرد عليه، حيث يتعرض الدبلوماسيون والمسؤولون الصينيون الذين يمسّون بكرامة الصين خلال المفاوضات لانتقادات محلية مهينة في مناسبات كثيرة. لا تعكس الإشادة بموقف يانغ في بكين اقتناع الرأي العام المحلي بأن تصريح المسؤول الصيني يعني أنه يقف في وجه الولايات المتحدة فحسب، فقبل أيام قليلة، عبّر شي جين بينغ عن الموقف نفسه خلال اجتماع المؤتمر الاستشاري السياسي، فصدرت عنه تعليقات حول الثقة التي يتمتع بها الصينيون اليوم في تعاملهم مع العالم، وسرعان ما أصبحت تعليقات الرئيس الصيني جزءاً من عناوين الأخبار باعتبارها إثباتاً على الرؤية الصينية العالمية الراهنة، ثم عبّرت تصريحات يانغ اللاحقة عن المشاعر نفسها تجاه الولايات المتحدة، وحصدت هذه التعليقات إشادة واسعة داخل المجتمع الصيني. من المتوقع أن تستمر هذه الدبلوماسية الصينية الأكثر عدائية، خلال الوقت الراهن على الأقل، فبدأت الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني في عام 2021، ومن المنتظر أن يتخذ المعنيون في خريف عام 2022 قراراً حول تمديد دور شي جين بينغ كأمين عام الحزب الشيوعي الصيني واحتمال أن يتسلم رئاسته خلال المؤتمر الوطني العشرين للحزب الحاكم، وفي ربيع العام 2023، سيقرر المؤتمر الشعبي الوطني تمديد دوره كرئيس أو اختيار بديل عنه، وبعيداً عن منصب شي جين بينغ، سيصدر قرار حول تقاعد رئيس الوزراء لي كه تشيانغ واستبداله، بالإضافة إلى إحداث تعديلات أخرى في طاقم الموظفين. لهذه الأسباب وحدها، سيصبح وضع السياسيين والدبلوماسيين الصينيين شائكاً، وسيشعر هؤلاء بأنهم مضطرون لتسليط الضوء على نجاحات إدارة شي جين بينغ وستكون مهاجمة تلك الإنجازات ممنوعة، فهذه المقاربة تُضيّق هامش التحرك في صناعة السياسة وتعني تلقائياً أن السياسيين سيحرصون على عدم تغيير ما يقوله الرئيس شي جين بينغ أو يفعله.جاء وباء كورونا ليزيد صلابة الدبلوماسية الصينية. قد نفترض أن الحزب الشيوعي الصيني نظام دكتاتوري أو أن إدارة شي جين بينغ تعمل على تقوية سيطرتها الإدارية، لكن لا يزال المجتمع الصيني متنوعاً جداً ولطالما كان هذا التنوع عاملاً مؤثراً على علاقات البلد الخارجية، وقد تتخذ الحكومة موقفاً حاسماً، ومع ذلك يمكن الاتكال حتى الآن على مجموعة متنوعة من المواقف داخل البلد ككل، لكن بعدما أصبحت السياسة الخارجية الصينية صارمة بكل وضوح، تراجع التنوع في تفاعلات القطاع الخاص مع العالم الخارجي بدرجة كبيرة، ويبدو أن الوضع الراهن يفتقر للمرونة والتنوع، ولا يقتصر هذا التغيير على عالم الدبلوماسية بل يشمل أيضاً علاقات الصين الخارجية بشكل عام. بعد استئناف تنقلات البشر، سيكون استرجاع المرونة والتنوع في علاقات الصين الخارجية بدل التمسك بدبلوماسية الحكومة الصارمة راهناً نقطة أساسية لتحديد وجهة علاقات الصين مع الخارج مستقبلاً.