منذ سقوط كابول في 15 أغسطس، طرح الرئيس الأميركي جو بايدن وكبار مستشاريه أربعة ادعاءات أساسية لتبرير قرار سحب القوات الأميركية من أفغانستان والتصدي للانتقادات المرتبطة بالنتيجة الكارثية هناك، فبحسب قولهم، ما كان يمكن أن تستمر المهمة الأميركية في أفغانستان من دون زيادة عدد القوات العسكرية بدرجة كبيرة. لقد اضطروا للالتزام بالاتفاق الذي أبرمته إدارة الرئيس دونالد ترامب مع حركة "طالبان"، وهو يقضي بأن تسحب الولايات المتحدة قواتها العسكرية من البلد، كذلك، انتقد المسؤولون الأميركيون عدم استعداد الجيش الأفغاني لمحاربة "طالبان"، وأخيراً، زعموا أن الإدارة الأميركية "خططت لجميع حالات الطوارئ المحتملة"، لكن ما كان يمكن تجنب الفوضى بأي شكل.لا يُعتبر أيٌّ من هذه الأفكار صحيحاً ويدرك بايدن ذلك، ويأتي دفاعه الشائك عن سياسة فاشلة وقلة الكفاءة في التنفيذ ليؤجج الأضرار المترتبة عن الكارثة الأفغانية الكبرى.
دفاع فارغ
تستند حجّة الإدارة الأميركية حول استحالة استمرار الوضع الراهن إلى ركيزتَين: أولاً، بدأت حركة "طالبان" تعيد فرض سيطرتها بوتيرة متواصلة وما كان يمكن ردعها إلا عبر إضافة أعداد كبيرة من القوات العسكرية الأميركية. ثانياً، لم يتوقف سقوط الضحايا إلا بفضل الاتفاق الذي عقدته إدارة ترامب مع "طالبان".في ما يخص حتمية انتصار "طالبان"، يُفترض أن نشيد على الأرجح بقدرة هذه الحركة على احتساب الفرص المتاحة أمامها. قال زعيم "طالبان"، المُلا عبد الغني بردار، بعد سقوط كابول: "لقد حققنا انتصاراً غير متوقع"، حتى الفترة الأخيرة، كانت قوات الأمن الأفغانية تتصدى لحركة "طالبان" رغم تراجع القوات الأميركية والحليفة وامتناعها عن المشاركة في القتال مباشرةً، وحتى عام 2018، كانت "طالبان" تسيطر على 4% فقط من أراضي أفغانستان، أي ما يساوي 14 منطقة ريفية من أصل 419. في غضون ذلك، كانت 122 مقاطعة تخلو من أي وجود لعناصر "طالبان"، وبحسب مصادر وزارة الدفاع الأميركية، أصبحت قوات الأمن الوطنية الأفغانية أكثر قوة وزادت قدرتها على خوض المعارك التي أرادتها الولايات المتحدة لكنها لم ترغب في خوضها وحدها. ما سبب تغيّر الظروف إذاً واكتساب "طالبان" زخماً متجدداً مقابل ضعف الجيش الأفغاني؟ في المقام الأول، أدى فساد الدولة الأفغانية إلى استنزاف ثقة الرأي العام بالحكومة، وزيادة دعم "طالبان"، وحتى تمويل حركات التمرد. في هذا السياق، استنتج "مكتب المفتش العام الخاص بإعادة إعمار أفغانستان" في تقريره الصادر في عام 2016 أن "المسؤولين الفاسدين على جميع مستويات الحكومة أساؤوا إلى الشعب الأفغاني وهمّشوه، وقد وصلت الأموال الأميركية الأساسية إلى الجماعات المتمردة"، والأسوأ من ذلك هو أن واشنطن شاركت بالكامل في انهيار الحكومة الأفغانية، وبرأي سارة شايز الخبيرة في شؤون أفغانستان ومستشارة الجيش الأميركي لسنوات، قامت إدارة أوباما بخيار سياسي واعٍ حين سمحت باستمرار الفساد لأنه كان مستفحلاً جداً وسط القادة السياسيين الأفغان الذين تتكل عليهم واشنطن لتنفيذ استراتيجيتها.لم تكن مشكلة الفساد حكراً على الجيش فحسب، بل إنها طرحت أكبر إشكالية في أوساط الشرطة الأفغانية تحديداً، لكن عمدت الحكومة الأفغانية إلى تضخيم ميزانية جيشها عبر إضافة "جنود وهميين" إلى جدول الرواتب، مما سمح للمسؤولين الفاسدين بجمع حتى 300 مليون دولار، لكن استمرت مظاهر الفساد تزامناً مع إحراز التقدم، ونجحت الولايات المتحدة في الحد من الأضرار الناجمة عن الكسب غير المشروع عبر إيداع الأموال في الحسابات المصرفية الخاصة بالجنود الأفغان مباشرةً.لكن تبخّر ذلك التقدم حين اتفقت إدارة ترامب مع حركة "طالبان" وقرر فريق بايدن الالتزام بذلك الاتفاق، فشكّلت تلك الصفقة إهانة للحكومة الأفغانية التي لم تشارك في المفاوضات لكن طُلِب منها إطلاق سراح 5 آلاف معتقل من مقاتلي "طالبان" كجزءٍ من الصفقة، وأساء هذا الاتفاق بشدة إلى معنويات الجيش الأفغاني والشرطة لأن واشنطن انتزعت وعداً من "طالبان" بوقف استهداف الأميركيين لكنها لم تحصل على أي تنازل مرتبط بالقوات الأفغانية. من الشائع أن تتفاوض واشنطن مع الخصوم من دون مشاركة حلفائها مع أنهم يكونون الأكثر تأثراً بنتيجة المفاوضات، لكن الاتفاق مع "طالبان" سمح للخصوم بمهاجمة حلفاء الولايات المتحدة من دون التعرّض للمحاسبة، وهو تنازل غير مسبوق في تاريخ واشنطن.أكدت إدارة بايدن على أن التنصل من ذلك الاتفاق كان سيؤدي إلى تفاقم العنف في أفغانستان، مما يستدعي تصعيد التورط العسكري الأميركي، لكن حتى لو اعتبرنا هذه الفرضية صحيحة، كانت الحكومة والجيش في أفغانستان سيتحملان معظم أعباء هذا الوضع، لا القوات الأميركية، وكان الطرفان مستعدَين لهذه المهمة لأنهما يعتبران متابعة القتال بدعمٍ أميركي محدود أفضل بكثير من استمرار الوضع الراهن.نُسِفت فكرة بايدن أيضاً حين قال إن إدارته "خططت لجميع حالات الطوارئ المحتملة" نتيجة تسرّب اتهامات من داخل فريقه، لكن يسهل أن يستنتج كل من يشاهد موجة الهجرة الجماعية من كابول أن الإدارة الأميركية لم تكن مستعدة لهذه النتيجة، مع أن المسؤولين في وكالات الاستخبارات والدبلوماسيين كانوا يحذرون منذ أشهر من احتمال حصول انهيار سريع. كان مؤثراً أن تهبّ منظمات المجتمع المدني الأميركية لتقديم المساعدة وإجلاء الأميركيين والأفغان الذين عملوا لمصلحة القوات الأميركية، لكن لم يكن يُفترض أن تكون هذه الخطوة ضرورية أصلاً. يزعم بايدن أن الرئيس الأفغاني أشرف غني طلب منه الامتناع عن إجلاء الأميركيين والأفغان الذين عملوا معهم سابقاً، لكن إذا كانت الفوضى حتمية وسبق أن تحدد جدول الانسحاب، كما قال بايدن، لم يكن تأجيل طلب غني مبرراً. تدعو المنظمات الأميركية المعنية بالمحاربين القدامى منذ أشهر إلى إعادة المزيد من الأميركيين، وفي منتصف شهر يوليو الماضي، دعت السفارة الأميركية في كابول إلى تسريع عملية الإجلاء أيضاً.أخيراً، يتجاهل استخفاف بايدن المخزي بقوات الأمن الأفغانية هوية الجهة التي شاركت في معظم المعارك وتكبدت خسائر بشرية في هذه الحرب. في هذا السياق، يقول الكاتب والمحارب القديم في الحرب الأفغانية، إيليوت أكيرمان: "رغم كثرة الكلام عن استسلام الأفغان في هذا الصراع، يجب ألا ننسى أول جهة غادرت ساحة المعركة: نحن فعلنا ذلك". قد تكون جميع أنواع الخسائر مؤسفة، لكن تحمّلت قوات الأمن الأفغانية معظم الخسائر منذ العام 2007 على الأقل، ولا يمكن اعتبار المفاوضات بين حركة "طالبان" وإدارتَي ترامب وبايدن السبب الحقيقي وراء تراجع عدد الضحايا الأميركيين. عملياً، انخفضت الخسائر البشرية نسبياً منذ عام 2014، حين تسلمت القوات الأفغانية مسؤولية العمليات القتالية المباشرة ضد "طالبان"، ولم تنحسر الخسائر البشرية الأميركية لأن "طالبان" تراجعت إذاً، بل لأن الجيش الأفغاني هو الذي انسحب من المعركة.انهيار المصداقية الأميركية
لا يمكن تخيّل حجم الضرر الذي ألحقه هذا الفشل الذريع بالمصداقية الأميركية، فلم تذكر تبريرات بايدن الواهية شيئاً عن التزام 36 دولة أخرى من بين تلك التي تنشر قواتها العسكرية في أفغانستان، ولم تتطرق إلى صعوبة انسحاب تلك الدول بكل أمان وكيفية تبرير هذه المهمة أمام الرأي العام المحلي بعد تخلي واشنطن السريع عن البلد. لقد أمضت تلك الدول عشرين سنة في أفغانستان، لكنها لم تفعل ذلك لأنها تعتبر أفغانستان أساسية للحفاظ على أمنها، بل لأنها تعتبر الولايات المتحدة ضرورية لتحقيق مصالحها الأمنية، وهذا الانسحاب الكارثي سيُصعّب على واشنطن حشد تحالفات مماثلة مستقبلاً، وبعد استسلام الولايات المتحدة أمام "طالبان"، سيصعب على الجميع أن يصدّقوا مواقف إدارة بايدن حول دعم حقوق الإنسان والدفاع عن الديموقراطية، علماً أن هذه الخصائص تشكّل جزءاً محورياً من سياسة بايدن الخارجية.على صعيد آخر، سيُشجّع نجاح "طالبان" في أفغانستان الجهاديين في كل مكان، وقد يتوقف استعداد "طالبان" لتقديم دعم مباشر للجهاديين على حساباتها المرتبطة بميل واشنطن إلى تجديد التزاماتها في أفغانستان، وسيتمكن نظام "طالبان" من التصدي للضربات الجوية الأميركية العابرة، فقد تحمّلت الحركة ظروفاً أسوأ بكثير حين كانت الولايات المتحدة تنشر جنودها في البلد، كذلك، تستطيع "طالبان" أن تتكل على رفض بايدن المحتمل لاتخاذ أي خطوات إضافية، ومن المستبعد أن تكون مزاعم الإدارة الأميركية حول استمرار قدرة الولايات المتحدة على تنفيذ عمليات معينة لمكافحة الإرهاب داخل أفغانستان كافية لردع الجهاديين نظراً إلى تراجع قدرات الاستخبارات الأميركية نتيجة إنهاء الوجود العسكري الأميركي هناك.قد تكون أفغانستان مصلحة أميركية هامشية، إذ لم تكن الحرب الأفغانية جبهة محورية في الصراع القائم بين القوى العظمى بقدر ألمانيا خلال الحرب الباردة مثلاً، بل كانت تلك الساحة أقرب إلى كوريا في عام 1950 أو فيتنام خلال الستينيات، وربما بالغت الولايات المتحدة في ردة فعلها تجاه التهديدات الإرهابية بعد اعتداء 11 سبتمبر، فغيّرت مسار البلد وأهدرت قوتها الصلبة والناعمة في آن عبر خياراتها السياسية الشائبة، حيث كانت المصالح الأميركية ستتحقق بطريقة أفضل وتصمد القوة الأميركية على الأرجح عبر الحد من الأهداف المعلنة في أفغانستان والامتناع عن غزو العراق.لكن لن يُخّفف أيٌّ من هذه العوامل الأضرار غير الضرورية التي ألحقها بايدن بالأفغان وحلفاء واشنطن وأجندته المتوسعة في مجال السياسة الخارجية والقوة الأميركية عموماً، لقد اتخذ فريق بايدن قرارات مكلفة، وهو يتكل على تعاطف الرأي العام لتجنب التداعيات السياسية محلياً، حتى أنه يفترض أن الصور المريعة التي تُظهِر هرب الأفغان اليائسين من بلدهم ستفيد الرئيس سياسياً في نهاية المطاف، وفي مطلق الأحوال تبقى السمعة عاملاً أساسياً في عالم السياسة الدولية، وقد اكتسبت إدارة بايدن للتو سمعة سيئة.