نظرياً، يجب أن تملك القوى العظمى مجموعة من أدوات السياسة الخارجية، منها القوة العسكرية، والامتياز الثقافي، والإقناع الدبلوماسي، والبراعة التكنولوجية، والمساعدات الاقتصادية، لكن كل من راقب السياسة الخارجية الأميركية في العقد الأخير أدرك أن الولايات المتحدة تتكل على أداة واحدة دون سواها: العقوبات الاقتصادية.أصبحت العقوبات أول حل تلجأ إليه الدول لمعالجة جميع مشاكل السياسة الخارجية تقريباً، فخلال أول ولاية من عهد الرئيس باراك أوباما، فرضت الولايات المتحدة العقوبات على 500 كيان سنوياً لأسباب تتراوح بين انتهاك حقوق الإنسان والانتشار النووي واختراق سيادة الدول، وارتفع ذلك الرقم بنسبة الضعف تقريباً على مر عهد دونالد ترامب، ثم فرض الرئيس جو بايدن، خلال الأشهر الأولى من عهده الرئاسي، عقوبات جديدة ضد ميانمار (بسبب الانقلاب الذي شهده البلد)، ونيكاراغوا (بسبب حملتها القمعية)، وروسيا (بسبب عمليات القرصنة).
لم يغيّر بايدن برامج العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب بطريقة جذرية، بل اكتفى برفع العقوبات المفروضة إلى المحكمة الجنائية الدولية، وطالب ناشطون بفرض عقوبات على الصين بسبب اضطهادها للإيغوريين، والمجر بسبب تراجع الديموقراطية فيها، وإسرائيل بسبب طريقة تعاملها مع الفلسطينيين.كان هذا الاتكال على العقوبات الاقتصادية سيُعتبر طبيعياً لو أنها نجحت في إقناع الدول الأخرى بالقيام بما تريده واشنطن، لكنها لم تُحقق هذا الهدف، فوفق أكثر التقديرات الأكاديمية تفاؤلاً حول فاعلية العقوبات، وهي دراسة مبنية على بيانات من جامعة "كارولاينا الشمالية" في عام 2014، تبيّن أن العقوبات تؤدي في أفضل الأحوال إلى تنازلات معينة في ثلث أو نصف المرات، واستنتجت دراسة أخرى أجراها "مكتب محاسبة الحكومة" عام 2019 أن الحكومة الفدرالية بحد ذاتها لا تعرف بالضرورة الحالات التي أعطت فيها العقوبات المفعول المنشود، وذكر التقرير نفسه أن المسؤولين في وزارات الخزانة والخارجية والتجارة "أعلنوا أنهم لا يجرون تقييمات حول فاعلية العقوبات لتحقيق أهداف السياسة الأميركية العامة".عملياً، لا يرتبط تركيز واشنطن على العقوبات بمستوى فاعليتها، بل إنه يتعلق بعامل مختلف: التراجع الأميركي. لم تعد الولايات المتحدة قوة عظمى لا مثيل لها، بل إنها تعجز اليوم عن فرض ثقلها كما كانت تفعل سابقاً، فقد تراجعت قوتها العسكرية ونفوذها الدبلوماسي نسبياً، وتآكلت القوة الأميركية عموماً بعد عقدَين من الحروب، والركود، والانقسامات، وأخيراً وباء كورونا، ونتيجةً لذلك تراجعت الموارد التي يستطيع الرؤساء الأميركيون المحبطون استعمالها، فباتوا يفضلون اللجوء سريعاً إلى أداة العقوبات السهلة والمتاحة.يُفترض أن تستعمل واشنطن العقوبات إذاً بطريقة دقيقة وحذرة، وبناءً على مقاربة أكثر انضباطاً من البراعة الاقتصادية، يجب أن يوضح المسؤولون الهدف من كل تدبير والمعيار الذي يبرر إلغاءه، لكن يجب أن يتذكروا أيضاً أنهم يملكون أدوات أخرى في متناولهم، فالعقوبات مقاربة متخصصة يمكن استعمالها بأفضل طريقة في ظروفٍ تحت السيطرة، لكنها ليست أداة شاملة يمكن اللجوء إليها يومياً.
الملجأ الأول
إذا كانت العقوبات الاقتصادية مضنية لهذه الدرجة، فلماذا تشعر النُخَب في أوساط السياسة الخارجية بحماسة شديدة تجاهها؟ يبدو أن التحولات الحاصلة في السياسة العالمية وفي المجتمع الأميركي زادت جاذبية العقوبات، وتحديداً عند مقارنتها بالخيارات الأخرى، ويبقى فرض العقوبات أسهل من أي خيار آخر بكل بساطة.وفق مقولة الجنرال الصيني القديم صن تزو، تُعتبر العقوبات التي لا يضطر أحد لفرضها أفضل نوعٍ على الإطلاق، ففي معظم فترات حقبة ما بعد الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة قوية لدرجة ألا تجرؤ دول كثيرة على تحدّيها حتى لو أرادت ذلك، فانجرّت أطراف أخرى وراء القوة الأميركية "الناعمة" وباتت رغباتها تتماشى مع الأهداف الأميركية، أما الجهات التي قررت تحدي واشنطن رغم كل شيء، فقد واجهت مقاومة سريعة رسّختها هياكل متعددة الأطراف مثل مجلس الأمن في الأمم المتحدة، ولم تضطر الولايات المتحدة لفرض عقوبات اقتصادية إلا في مجموعة فرعية صغيرة من العلاقات الدولية، بما في ذلك ملفات الانتشار النووي وجرائم الحرب.لكن في ظل تراجع الهيمنة الأميركية اليوم، زادت أعداد الدول التي تسعى إلى تغيير الوضع الراهن بكل بساطة، وأنتج الركود الديموقراطي وتصدّع النظام الدولي الليبرالي دولاً أكثر رجعية لا تتفق أيديولوجياً مع واشنطن، وفي الوقت نفسه، لم تعد تهديدات الإكراه الأميركي مخيفة بالقدر نفسه غداة إخفاقات السياسة الأميركية الواضحة في أفغانستان والعراق وليبيا وسورية، وتزامناً مع زيادة الجهات المستعدة لتحدي المصالح الأميركية، توسّعت أيضاً المطالبة بفرض عقوبات ضدها.ربما فشلت العقوبات بسبب تغيّر النزعات السائدة، لكنّ المكافآت لم تعد محبذة أيضاً، وعلى مر أكثر من 80 سنة، كانت الولايات المتحدة مستعدة لعرض المساعدات الخارجية والترتيبات التجارية المميزة على الدول كوسيلة لدعم سياسات خارجية أكثر واقعية، لكن خلال العقد الماضي، تفككت سياسة الانفتاح الاقتصادي، ولم يسبق أن كانت المساعدات الخارجية محبذة يوماً، لكن تراجع التأييد العام لها بدرجة إضافية في هذا العصر الشعبوي، ففي ما يخص التجارة، يستبعد شعار "أميركا أولاً" الذي أطلقه ترامب وحملة بايدن المبنية على "السياسة الخارجية الخاصة بالطبقة الوسطى" عقد اتفاقيات جديدة في مجال التجارة الحرة، وحتى لو أراد الرئيس عقد اتفاق مماثل، فستزيد صعوبة تمريره في الكونغرس بسبب الانقسامات السياسية السائدة.أصبح استعمال الأدوات الأخرى أعلى كلفة، لكن تطبيق العقوبات لم يكن يوماً أسهل مما هو عليه راهناً. لقد توسّعت مجموعة القوانين الأميركية التي تسمح بفرض العقوبات بدرجة كبيرة، فمن وجهة نظر الكونغرس، يحقق أسلوب الإكراه الاقتصادي الأهداف السياسية المطلوبة، وهو يُعتبر أقل كلفة من غيره وغير محفوف بالمخاطر بقدر إعلان الحرب، لكنه يبقى أقوى من القرارات الرمزية، ويستطيع السياسيون أن يخبروا ناخبيهم بأنهم يعملون على معالجة مشكلة معينة حتى لو كان الحل الذي يقترحونه غير نافع.نحو التخلي عن العادات السابقة
أصبحت الولايات المتحدة اليوم أمام معضلة حقيقية، فهي تواجه عدداً متزايداً من التحديات في مجال السياسة الخارجية لكنها تملك مجموعة متناقصة من الأدوات لمعالجتها، وفي غضون ذلك بدأت أداتها المفضلة، أي العقوبات، تَضعُف من جراء استعمالها المتكرر، حيث تدرك إدارة بايدن طبيعة المشكلة القائمة على الأقل، فقد تعهدت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، خلال جلسة الاستماع التي شاركت فيها، "بمراجعة سياسة العقوبات الأميركية لضمان استعمال التدابير المفروضة بطريقة استراتيجية ومناسبة". لكن ما معنى تغيير هذه السياسة الراسخة عملياً؟ستكون أوضح نصيحة الأصعب من حيث التطبيق: يجب أن تتراجع المناسبات التي تلجأ فيها الولايات المتحدة إلى العقوبات، وحتى لو كان القرار الفردي بفرض العقوبات منطقياً، يجب أن يفكر صانعو السياسة بالأثر الكلي للعقوبات المفرطة، ولا يعني ذلك الامتناع عن فرض العقوبات في جميع الحالات، إذا احتاجت الولايات المتحدة إلى التصدي لانتهاكات المعايير الفاضحة، كما حصل حين أجبرت بيلاروسيا طائرة ركاب مدنية على الهبوط في شهر مايو الماضي لاعتقال أحد الصحافيين، لكن كلما تراجع عدد العقوبات المفروضة، زادت فاعلية تلك التي يتم تنفيذها بالشكل المناسب.يعطي الإكراه الاقتصادي أفضل مفعول حين تدرك الدولة التي تفرض العقوبات الظروف التي تستدعي تنفيذها أو رفعها والحالات التي تُهددها، ولحماية قدرة الدول على استعمال البراعة الاقتصادية مستقبلاً، يجب أن تُطَمْئِن الولايات المتحدة الدول الأخرى حول حرصها على تطبيق العقوبات بذكاء، ويجب أن توضح، بالقول والفعل، أنها تلجأ إلى العقوبات في ظروف ضيقة ومحددة حصراً، ويُفترض أن تُصمّم إجراءات نموذجية لحصد دعمٍ متعدد الأطراف لقرار فرض العقوبات ضد فئات واضحة من السلوكيات غير المقبولة. أخيراً، يجب أن ترفع واشنطن العقوبات سريعاً وتسمح باستئناف التبادل العابر للحدود حين تنفّذ الجهات المعنية المطالب المعلنة.