«وإنك لعلى خلق عظيم» (1)
ما أثنى الله جل وعلا على مخلوق كما أثنى على نبي الإسلام محمد، عليه الصلاة والسلام، عندما وصفه بقوله: "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ"، يطير المرء فرحاً وينتشي سروراً عندما يمتدحه مخلوق مثله: إنك على خلق، فكيف إذا جاء هذا الثناء النفيس من خالق الإنسان والكون؟! ولم يكتف القرآن بوصف رسوله أنه على (خلق) بل أضاف (العظيم) وصفاً آخر، ثم إن القرآن الكريم ساقه في آية مقرونة بأداتي توكيد: إن ولام الابتداء المؤكدتين (وإنك لعلى)، وعندما يصف المولى مخلوقاً بـ"الخلق العظيم"، فهو كذلك ظاهراً وباطناً، لأنه الأعلم به، فرسولنا على خلق عظيم في الظاهر والباطن.فما هذا "الخلق العظيم" الذي استحق به نبينا هذا الوصف الفريد؟
إنه ما وضحته زوجته السيدة خديجة، رضي الله عنها، وخير من يعرف خلق المرء شريكة حياته، عندما جاءها فزعاً بعد أن جاءه الوحي متعبداً في "غار حراء" اقرأ باسم ربك، فطمأنته وهدأت من روعه، وثبتت قلبه بكلماتها الخالدة: "كلا، أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتؤدي الأمانة، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".لك الله أيتها العظيمة الوفية، كان وجودك الحاني الحامي في حياة نبينا خير معين على أداء الرسالة، فلا عجب أن يظل يحن إليك العمر كله، ويأنس إلى رؤية أقربائك وإلى كل ما يذكره بك "إنه عقد خديجة هلا أطلقتم لها أسيرها"، ويقول لعائشة عندما غارت من كثرة ذكره لها "لا والله ما أبدلني الله خيراً منها"، إنه الوفي الأعظم صلى الله عليه وسلم.أما زوجته الثانية عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، فقد وصفته "كان خلقه القرآن" فما خلق القرآن؟إنه الرحمة والعون والتعاطف مع الضعيف والمظلوم والفقير والمسكين وابن السبيل: "وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ"، ورعاية من لا ظهر له من يتيم ومهمش ومسلوب الحق ومضطهد: "وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، والبذل والعطاء: "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ"، والتسامح وعدم رد الإساءة بمثلها: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"، إنه التسامي عن الانتقام: "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبـُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ"، حتى ممن آذوه واتهموه: "فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ"، فرسولنا ما انتقم لنفسه قط: "فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"، "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً". إنه السلام والتسامح والرحمة المهداة للبشرية جمعاء "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"، لذلك كان يؤثر السلم والصلح والعفو حتى مع أشد أعدائه. تأملوا عبقرية العفو عن قدرة لرسولنا، وانظروا مفاعيلها السحرية في نفسية ثمامة بن أثال، سيد اليمامة، و"اليمامة سلة الخبز لقريش" وقع أسيراً بيد المسلمين، فأمر الرسول بربطه إلى سارية المسجد وإكرامه كسيد من سادات العرب، وكان هدفه أن يستمع ثمامة القرآن، ويرى سمو أخلاقيات الرسول والمسلمين. يأتيه ويسأله: ماعندك يا ثمامة؟ فيجيب: إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم علي تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، ويتكرر هذا المشهد ثلاثة أيام ويأمر الرسول: أطلقوا ثمامة! عفو نبوي غير مشروط. ينقلب ثمامة إلى إنسان آخر، يأتي الرسول قائلا: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله... يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ... إلخ. ثم ينصرف إلى قومه في اليمامة ويقطع الميرة عن قريش ويصبح قوة للمسلمين، هذه هي قوة الخلق العظيم.أخيراً:الله يصطفي من عباده من يشاء لهداية البشرية على مر الأزمان، وهو أعلم بمن هو أصلح لأداء أعباء الرسالة الثقيلة، ولا شك أن هذا الرقي الخلقي والروحي لنبينا، وحتى قبل اختياره رسولاً هادياً، هو الذي أهله لهذا الشرف العظيم. يتبع، ،*كاتب قطري