صور من أرشيف الذاكرة *
كابول مدينة أخرى يترك سكانها لمصيرهم بعد سنين من الوعود بالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان وتعليم المرأة والمساواة وغيرها من الشعارات التي كانت جميلة، وتحولت إلى مجرد سلعة في سلال المانحين والجمعيات الأهلية العالمية منها والمحلية، والأهم أنهم يستمرون في تسويق السلعة البائتة نفسها.
ينعصر قلبك، تغمض عينيك وتحاول ألا تتابع المشهد، وعند تلك اللحظة المعتمة تعود الصور للتساقط من أرشيف الذاكرة الذي تصورت أنت تحديداً أنه قد مُحي بشكل تدريجي، تعود الصور: بشر هم، رجال ونساء وأطفال، شيوخ وشباب، كتل بشرية تتحرك باتجاه الطائرات المحلقة بعيداً، بالنسبة لهم هنا الموت وهناك الحياة. تعيدك الصور المتساقطة سريعا الى سنين بعيدة عند خروج الجيش نفسه من فيتنام، والكثيرون يلاحقون الطائرات علها ترفق بحالهم وتأخذهم مع المحظوظين من أولئك البشر، كم كنا نتصور أنها المرة الأخيرة، والدرس القاسي قد يعلم أكثر المستعمرين ذكاء وقوة، ولكن تعود مشاهد البشر الباحثة عن قبضة في ذيل الطائرة أو حتى فوق عجلاتها؛ أجساد ترمى بعيداً، جثث مقطعة، مشاهد تبدو وكأنها من أفلام الرعب الهوليودية، المشهد نفسه يتكرر مع فوارق في المظهر والشكل والمدينة، الوجوه الشاحبة نفسها والعيون المليئة بالخوف أو الدمع الدامي هي نفسها تتكرر. مدينة أخرى يترك سكانها لمصيرهم بعد سنين من الوعود بالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان وتعليم المرأة والمساواة وغيرها من الشعارات التي كانت جميلة، وتحولت إلى مجرد سلعة في سلال المانحين والجمعيات الأهلية العالمية منها والمحلية، والأهم أنهم يستمرون في تسويق السلعة البائتة نفسها، ويتبجحون بما صرف من أموال لتمكين المرأة ومنحها فرصتها في المشاركة والحياة الكريمة... نعم الحياة الكريمة وهي الآن تختبئ خوفا على حياتها، هي تبحث عن مخبأ حتى لا تتحول إلى سبية أو جثة تنهشها الكلاب البشرية مرتدية شعارات الدين مرة وشعارات الشرف مرات!!
أكثر ما يؤلم في المشهد تكراره في مدن بأسماء مختلفة وشخوص بأشكال مختلفة أيضا، ولكن السيناريو هو نفسه، وكأنه فيلم يعاد إنتاجه من الأبيض والأسود إلى الألوان!! تقرر أنك لن تشاهد ولن تسمع ولن تناقش، ألم تعتد على اللاءات الثلاث وأخواتها؟ فتغلق كل ما يرسل أية إشارة أو صورة، وتبعد بصرك، فمنذ فيتنام والجرح ينزف في مدن وعواصم وأرياف ووجوه أتعبها البحث عن حياة فقط، كما هي حيوات بقية البشر على هذه الأرض، تنظر لهؤلاء فتعرف أن أحلامهم لا تبعد عن أحلام من هم مثلهم هنا أيضا.. سقف ومدرسة للأبناء ورغيف خبز أو طبق من الأرز وبعض الكرامة إن أمكن.. كم هي صغيرة أحلامهم وأحلامنا، كم هم يشبهون من سبقوهم ومن سيلحقون بهم. مشاهد كابول ليست الأخيرة ربما وليست الأولى، هي فقط استفاقة من أحلام أن القادم فوق دبابة أو طائرة أسرع من الصوت، يحمل مع دبابته بعضا من الديموقراطية والحرية والمساواة والعدالة و... و... كلمات وقيم سامية كتبوها في دساتيرهم وأوهموا العالم أنهم يدافعون عنها حتى لو كان ذاك في آخر بقعة على وجه البسيطة، وهم هو أم حلم؟ ربما لا فرق كبيراً بين الاثنين، لكن الأهم ليس درس من قام في صباح ذاك اليوم وحمل ما خف حمله وغلا ثمنه ورحل كل مواطنيه من الدرجة الأولى حتى الحيوانات التابعة لهم وترك كل أولئك الحالمين أو الواهمين بأنه كان "المخلص"!! ولم ينس طبعاً كثير من توابعه من أبناء البلد نفسه، أي بشر درجة ثانية، ولكنهم قاموا بخدمات منها الترجمة وخدمة بشر الدرجة الأولى فاستحقوا أن ينقذوهم من براثن القادمين براياتهم السوداء حاملين المصاحف المقلوبة، المتدثرين تحت عباءة الدين مرة ومرات.. كل الأمور محسوبة حتى آخر قرش، فمواطنوهم، أي بشر الدرجة الأولى الممتازة، يعودون سالمين غانمين إلى أوطانهم ودفء أسرهم ورايات النصر التي تنتظرهم في مدنهم البعيدة والصغيرة، في حين يبقى البشر من ذوي الدرجة الثانية، أي المترجمين والتابعين وحملة الأختام والمروجين وحتى منهم الذين اعتلوا المناصب العليا، هؤلاء يرحلون إلى دول أخرى، حيث تقوم تلك الدول بالتكفل بهم مقابل أنهم خدموا "أسياد" الأرض كلها.. كم هو مشهد يعصر القلب حتى آخر قطرة، ويثير الغضب حد الاشمئزاز من تلك الهمجية المتدثرة بلحاف الحضارة والحرية.. كم هو محزن أن تكون حياة فرد منهم أهم من حياة ملايين منا، والأكثر ألماً أن كابول ليست الأخيرة!!* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
● د. خولة مطر
مشهد طائرة كابول يعصر القلب حتى آخر قطرة ويثير الغضب حد الاشمئزاز من تلك الهمجية المتدثرة بلحاف الحضارة والحرية
أكثر ما يؤلم في المشهد تكراره في مدن بأسماء مختلفة وشخوص بأشكال مختلفة أيضاً وكأنه فيلم يعاد إنتاجه من الأبيض والأسود
أكثر ما يؤلم في المشهد تكراره في مدن بأسماء مختلفة وشخوص بأشكال مختلفة أيضاً وكأنه فيلم يعاد إنتاجه من الأبيض والأسود