كتب وعمل ومات

نشر في 06-09-2021
آخر تحديث 06-09-2021 | 00:18
 حسن العيسى ربما كان صيف عام 74 حين جلسنا نحن الثلاثة بمقهى عربي قريب من "كامبس" (حرم) جامعة بيركلي كاليفورنيا الشهيرة، طلبنا المقرر المفروض في المطاعم العربية حين يستبد بنا الشوق لرائحة الشرق في بلاد بعيدة، فول وحمص وخبز عربي، كنا الثلاثة: المرحوم شملان العيسى (كان يدرس قبل التخرج بجامعة كاليفورنيا سان هوزيه)، وشفيق ناظم الغبرا، وكاتب هذه السطور. شفيق الشاب بخصلات شعر خفيفة مستلقية على رأسه كأنها تنبئ صاحبها بصلعة حتمية قادمة تتمدد على قمة رأس يحمل في جوفه عقلاً متزناً ذكياً مهموماً بقضايا أمته. شفيق الذي كان يدرس "كورساً" صيفياً ببيركلي، كان متحمساً في نقاشه مع شملان عن المقاومة الفلسطينية، وأنا بدوري كنت متحمساً منتظراً لطبقي الفول والحمص.

مشينا قليلاً في ساحة الجامعة، نشهد على روح التمرد والرفض من بقايا ثورة الطلبة في الستينيات ونهايات حرب فيتنام مازالت تنبض هناك، تتحرك بخفة راقصة على إيقاعات طبول الطلبة الأميركان السود.

مرت الأيام والسنون بسرعة، د. شفيق أصبح أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة الكويت. كانت تجمعنا أحياناً الصدف إما في منزله أو بمنزلنا، وإما في حفل عشاء بسيط عند أصدقاء مشتركين بيننا. شفيق كعادته لم يتغير في حماسه لقضايا أمته ولحقوق الإنسان بكل ذرة تراب تعاني من عطش الحرية في صحاريها الممتدة.

ظل شفيق منسجماً بقناعاته، مؤمناً بالديموقراطية والحريات في كتاباته وبحوثه الجادة، كان له رأيه بالنسبة لأوضاع الجالية الفلسطينية بالكويت عند التحرير وما بعده، كثير منهم دفع أثماناً غالية نتيجة الاحتلال العراقي بسبب جماعات فلسطينية قليلة تابعة لصدام، وتحمَّل شفيق نقداً وهجوماً قاسياً من حماقات العصبيات العنصرية المتعالية، مثلما تحمَّل فيما بعد الكثير من الهجوم القاسي في تقييمه لفوز جماعة الإخوان المسلمين في انتخابات الربيع العربي بمصر، بعد موجة الربيع العربي بمصر وعدد من البلاد العربية.

قبل أشهر اتصل شفيق من الولايات المتحدة يسألني عن ترتيبات أمور خاصة، وقال إنه يتعالج هناك من سرطان المعدة. كان يتحدث بشجاعة كبيرة عن الموت القادم له بسرعة، بعد أن تمدد السرطان في جسده، لم يكن مكترثاً كثيراً له، كان موقفه في مواجهة حتمية الموت "أصيلاً"، ليس به أي تردد. ظل يكتب ويدافع عن رأيه في كتاباته بالجرائد، لم يكن جزعاً من حقيقة نهاية الإنسان، فكل نفس ذائقة الموت مهما تباعد بنا الزمن، وليس لنا أن ننسى حقيقة النهاية حين تشغلنا ونغرق بتفاصيل أمورنا اليومية.

رحل شفيق لعالم الفناء بعد معاناة طويلة مع المرض، لنعيد عندها مقولة الفيلسوف هايدغر عن زمانية الوجود، بأن شفيق ولد وكتب ومات... رحم الله صديقنا شفيق.

حسن العيسى

back to top