جمهورية التبريرات و«الماذا عن؟!»
"زعيمك مجنون، قاتل، متعصب، فاشل وعميل"، هذا ما قاله لبناني لآخر كان مستعداً بالرد الفوري: "وماذا عن زعيمك السارق، الفاسد، الحاقد، ورأس الحربة في المؤامرة ضد الوطن؟!". يلخص هذا الحوار المختلق معظم ما يدور في المناوشات البيزنطية بين "الجيوش الإلكترونية" والحملات الممنهجة على المنصات الإعلامية، حيث يعمد المتخاصمون الى استخدام أسلوب "الماذا عن؟" Whataboutism، ويعني ذلك بحسب التعريف الشائع اتباع أحد أنواع المغالطات الصورية والتوسل بالنفاق وتبرير الموقف من خلال تشويه صورة الخصم والتشكيك في مواقفه دون دحض حجته بشكل مباشر وواضح ودون إنكار التهم بإثبات عدم صحتها.وهكذا سقطت "سويسرا الشرق" بهبوط حر إلى هاوية "التبريرات" التي طالت ببراثنها كل المستويات السياسية، الشعبية، الأمنية، القضائية، حتى الدستورية، وكانت النتيجة أن زاد الشعب اللبناني تفككاً وانعزالية وانغماساً في لعبة خطيرة لم يثبت بعد أنه تلمس خطورتها الفعلية ولا مدى مساهمته فيها، وقد ارتضى المواطن أن يكون مجرد صوت "منتخب" للسيئ جكارة بالأسوأ، ليتحول فيما بعد إلى صوت "منتحب" من السيئ والأسوأ دون أن يبادر لإبعادهما عن مسار تقدمه!
فإذا تمعّنا بتاريخ النزاعات اللبنانية الممتدة والمتكررة، منذ 1840- تاريخ أول حرب أهلية- لحين آخر اشتباك مسلح، نجد أنها قامت على فكرة "التخويف" من الآخر وتبرير الفعل بتسويقه على أنه ردة فعل على ما اقترفه أو سيقترفه الخصوم. بناء على ذلك، تمسكت القوى "الإسلامية" و"الوطنية" بالناصرية تارة ومنظمة التحرير الفلسطينية طوراً على حساب السيادة الوطنية بحجة التضامن "الديني" أو "القومي" لمواجهة "المارونية السياسية" التي بررت تعاونها مع الشيطان "الإسرائيلي" خوفاً من شعار "رمي المسيحيين في البحر" وتمسكاً بحقوقها الدستورية، واستناداً للعلاقة المتجذرة بـ"أرز الرب"، الأمر الذي جرّ فيما بعد إلى حملة اتهامات متبادلة بـ"التخوين" و"الانعزالية" و"العمالة" كانت كافية وحدها لتأجيج المعارك الطائفية الدامية.ووفق المنطق نفسه تبادل الأطراف في "حرب الجبل" كل أنواع الشيطنة لتبرير الفظاعات والمجازر التي ارتكبها كل منهم، وهكذا بررّت المعارك التي خاضها قائد الجيش السابق العماد "ميشال عون" ضد ميليشيا "القوات اللبنانية" تحت شعار "توحيد البندقية"، في حين روّج الإعلام القواتي أنها حرب "إلغاء" سبقت الحرب التالية التي خاضها العماد نفسه "لتحرير" الوطن من الجيش السوري الذي "استعان" به حلفاؤه "لإعادة الشرعية" الى قصر بعبدا الذي أسماه ساكنه "بيت الشعب" دغدغة لمشاعر مناصريه. وعلى المستوى السياسي يتصدر شعار "ما خلّونا" قائمة التبريرات التي يروجها الفريق الموالي لرئيس الجمهورية لتبرير عجز "المسيحي القوي" و"بيّ الكلّ" عن تحقيق ما وعد به، في حين يتلطى الخصوم، بكل خطاياهم وممارساتهم، خلف تسفيه شعار "استعادة حقوق المسيحيين" الذي يرفعه تيار الرئيس، ويستخفون بسياسة تعليق الفشل على شماعة الشعارات الرنّانة كـ"انعدام الصلاحيات" و"حكومة العهد الأولى" وإنجازات "المئة يوم" والهروب للأمام بالـ"تحقيق الجنائي" والمطالبة بـ"الثلث المعطّل" مقابل "التوقيع الثالث"، والتخلي عن "الإبراء المستحيل" في صفقة التسوية الرئاسية. أما على المستوى الأمني والقضائي، فإن عناوين "الأمن بالتراضي" و"الغطاء السياسي" وربط القضاء بـ"مرجعية سياسية" هي ابتكارات لبنانية صرفة يبرر من خلالها كل الأطراف استقواءهم على الأجهزة الأمنية وانتهاكاتهم للقانون واستخفافهم بهيبة الدولة، فعلى قاعدة "6 و6 مكرر" تؤسس المطالبة بعدالة المعاملة بين "المسجونين الإسلاميين" و"العملاء" الفارين أو المحكومين، ووفق منطق المحافظة على حقوق "المنطقة" أو "الطائفة" أو حتى "العشيرة" يبرر هذا تسكيره للطريق العام ويحاول ذاك تبييض صفحة ارتكاباته السوداء. وفي السياق، ورغم علنية النهج ووضوح الانتماء "للمقاومة الإسلامية في لبنان"، يشرعن حزب الله وجوده وامتلاكه للصواريخ الدقيقة على أساس "تخلي الدولة" عن واجبها بالدفاع عن الوطن وردع الاعتداءات الإسرائيلية، في حين يتهمه الخصوم- وبعضهم من الفاسدين أو الخانعين- بأنه أكبر المسؤولين عن "تحلل الدولة"، وهكذا يرفع الحزب رايات "الوعد الصادق" على حساب "تخاذل" و"ديماغوجية" و"عمالة" الآخرين الذين يناهضون بدورهم "المقاولة" بالشعارات العاطفية والدينية "كالكرامة" و"المظلومية" والدفاع عن "بيئة المقاومة" وغيرها. أما على المستوى الشعبي، وهنا الواقع الأكثر خطورة والحقيقة الأكثر إيلاماً، أن الجوع أصبح مبرراً للرشوة الانتخابية، وفقدان العملة الخضراء مبرراً للعمالة، كما أن غياب التنمية المتوازنة حجة لزراعة الممنوعات وتهريب المخدرات، أما الالتحاق بركب الزعيم والحزب والطائفة فهو البديل المشروع عن "غياب الدولة"، والانتماء الوجداني مسوغ لمعاداة اللبناني الآخر والشعوب الشقيقة والصديقة. يقول مؤسس معهد "كارنيغي للعلاقات الإنسانية" إنه كان يدون "الحماقات" التي اقترفها في ملف خاص يخرجه دورياً من الدرج ليضمن عدم تكرار ما سولت به نفسه وما جنت يداه؛ أفليس حرياً بالشعوب المستغلة والمسلوبة الإرادة، والملتهية بمآسيها اليومية، أن تنتفض على خطيئة التبرير التي وضعت نفسها في شرنقتها؟! * كاتب ومستشار قانوني