أميركا تعود إلى الواقعية
مع سقوط أفغانستان في يد طالبان، أصبحت حدود القوة الأميركية واضحة، وسيحتفل كثيرون، لا قادة القوى المعادية فقط، بتأديب أميركا، لكن من المشكوك فيه أن تتمكن البنية الفوقية لحقوق الإنسان من البقاء دون أن تبدي أي دولة الاستعداد لاستخدام القوة العسكرية لدعمها.
في خطابه الذي دافع فيه عن قرار الانسحاب من أفغانستان، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن انفصالاً حاسماً باتاً عن تقليد المثالية في السياسة الخارجية الذي بدأ مع وودرو ويلسون وبلغ أشده في تسعينيات القرن العشرين، ورغم أن هذا التقليد كان يوصف غالبا بأنه "أمـمية ليبرالية"، فقد كان أيضا الرأي السائد على جناح اليمين بحلول نهاية الحرب الباردة، وينبغي للولايات المتحدة، وفقا لأنصار الأممية الليبرالية، أن تستخدم القوة العسكرية فضلا عن قوتها الاقتصادية لإرغام دول أخرى على احتضان الديموقراطية وإعلاء قيمة حقوق الإنسان.على مستوى المفهوم وفي الممارسة العملية، رفضت المثالية الأميركية نظام وستفاليا الدولي، الذي كان يُـحظَـر على الدول التدخل في شؤون الآخرين الداخلية، والذي افترض أن السلام ينتج عن الحفاظ على توازن القوى، فقد سعى ويلسون إلى الاستعاضة عن هذا النظام بمبادئ العدالة الدولية التي تديرها مؤسسات دولية، وأثناء الحرب العالمية الثانية، راجَـعَ فرانكلين ديلانو روزفلت هذه الـمُـثُـل في ميثاق الأطلسي الذي أبرم عام 1941، والذي أعلن حق تقرير المصير، والديموقراطية، وحقوق الإنسان كأهداف تُـخاض الحروب من أجلها.ولكن خلال الحرب الباردة، لاحَـقَـت الولايات المتحدة على نحو ثابت العزم سياسة خارجية "واقعية" ركزت على المصلحة الوطنية ودعمت أو تسامحت مع أنظمة دكتاتورية ما دامت هذه الأنظمة تعارض الاتحاد السوفياتي، فلم يجد الغريمان (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) حاجة تُـذكَر للاستعانة بالمؤسسات الدولية أو الـمُــثُـل العالمية باستثناء الأغراض الدعائية، واستخدما الترتيبات الإقليمية بدلا من ذلك لربط حلفائهما ببعضهم، كانت أوروبا هي التي حاولت، في سبعينيات القرن العشرين، النهوض بحقوق الإنسان وحمل لواء القيادة الأخلاقية لتمييز نفسها عن العملاقين عن يمينها ويسارها.
بدأ التزام أميركا بحقوق الإنسان في لحظة ضعف، ففي أعقاب كارثة فيتنام العسكرية والأخلاقية، سعى الرئيس جيمي كارتر والكونغرس الأميركي إلى تطعيم السياسة الخارجية الأميركية بمركز أخلاقي، واسـتُـخـدِمَت لغة حقوق الإنسان، ثم رأى الرئيس رونالد ريغان في حقوق الإنسان هراوة خطابية ملائمة لضرب الاتحاد السوفياتي، لكن لم يتوقف أي من الرئيسين عن دعم الأنظمة الدكتاتورية التي خدمت مصالح الولايات المتحدة الأمنية، ولم يستخدم أي منهما القوة العسكرية لتعزيز الـمُـثُـل الإنسانية، وكان لزاما على عصر التدخلات الإنسانية بقيادة الولايات المتحدة أن ينتظر نهاية الحرب الباردة.طغى الخطاب على الواقع العملي، لكن الواقع تغير، فباعتبارها القوة المهيمنة العالمية الوحيدة، شنت الولايات المتحدة عددا كبيرا من الحروب، الكبيرة والصغيرة، التي تنطوي على خليط مـحير من المصالح الأمنية الجامدة والخطاب المثالي، ففي بنما، والصومال، ويوغوسلافيا (مرتين)، والعراق (مرتين)، وليبيا، وأفغانستان، وأماكن أخرى، شنت الولايات المتحدة تدخلات عسكرية على أساس الأمن الوطني والبواعث الإنسانية.ربما كان عدم التدخل في الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 التصرف العكسي الأكثر أهمية في هذه الفترة، حيث أُعـيد تفسيره بعد النظر إلى أحداث الماضي على أنه فرصة ضائعة لاستخدام القوة العسكرية لإنقاذ مئات الآلاف من الأرواح، واستُـخـدِمَـت هذه الكارثة لتبرير الحروب في أفغانستان والعراق، وحث الولايات المتحدة على التدخل العسكري في السودان في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، وهو ما قاومته إدارة الرئيس جورج دبليو بوش بحكمة، على الرغم من عمليات القتل الجماعي التي ترقى إلى إبادة جماعية أخرى.كل هذا أدى إلى زيادة غير عادية في الاهتمام بالقانون الدولي والمؤسسات القانونية، وجرى إنشاء العديد من المحاكم الدولية، وأفضى هذا إلى إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة، وبدأ إحياء وتعزيز معاهدات ومؤسسات حقوق الإنسان، ودُفِـع بمبادئ التدخل الإنساني إلى الصدارة، بما في ذلك مبدأ "المسؤولية عن الحماية" الذي صار منسيا الآن، ففي الوقت الحاضر، أصبح لدى كل جامعة غربية مركز لحقوق الإنسان من نوع أو آخر يشهد على مثالية تلك الحقبة.كان من الواضح بالفعل أن الرئيس دونالد ترامب نَـبَـذَ تقليد التدخل العسكري لأسباب إنسانية أو شبه إنسانية، لكن ارتداد بايدن عنه بهذه القوة كان مفاجئا بعض الشيء، وفي خطابه، أَكَّـدَ بايدن على نحو متكرر على أهمية تحديد "المصلحة الوطنية الحيوية" الأميركية والدفاع عنها، وهنا تشكل كلمة "وطنية" المفتاح، وكان بايدن واضحا: "لو هوجمنا في الحادي عشر من سبتمبر 2001 من اليمن لا أفغانستان، فهل كنا سنذهب إلى الحرب في أفغانستان؟ حتى برغم أن طالبان كانت تسيطر على أفغانستان في عام 2001؟ أعتقد أن الإجابة الصادقة هي: كلا. هذا لأننا لم يكن لدينا مصلحة حيوية في أفغانستان غير منع هجوم على وطننا أميركا وعلى أصدقائنا، وهذا صحيح اليوم".لم يكن لأميركا مصلحة حيوية في تقديم الديموقراطية إلى أفغانستان، أو مساعدة النساء على الفرار من نظام حكم ديني يرجع إلى العصور الوسطى، أو تعليم الأطفال، أو المساعدة في منع حرب أهلية، أي أن القرار الذي اتخذه بالانسحاب من أفغانستان "كان متعلقا بإنهاء حقبة من العمليات العسكرية لإعادة تشكيل دول أخرى. لقد رأينا مهمة لمكافحة الإرهاب في أفغانستان وحمل الإرهابيين على وقف الهجمات تتحول إلى مهمة لمكافحة التمرد، وبناء الدولة، ومحاولة خلق أفغانستان ديموقراطية، ومتماسكة، وموحدة، وهو ما لم ينجح أحد في تحقيقه على مدار قرون عديدة من تاريخ أفغانستان. إن تجاوز هذه العقلية والامتناع عن ذلك النوع من نشر القوات على نطاق واسع سيجعلنا أقوى وأكثر فعالية وأمانا في وطننا". قال بايدن أيضا إن حقوق الإنسان ستظل "محور سياستنا الخارجية"، وأضاف أن "الأدوات الاقتصادية وأدوات الإقناع الأخلاقي يمكن استخدامها لتعزيز حقوق الإنسان. الواقع أن هذا الادعاء يتعارض مع إعلانه أن "المصالح الوطنية الحيوية" هي التي يجب أن تفصل في مسألة التدخل العسكري، فلماذا لا تحدد المصالح الوطنية الحيوية أيضا أشكال التدخل غير العسكري؟ من الواضح أن الدور الذي تؤديه حقوق الإنسان وغير ذلك من المثل الأخلاقية في السياسة الخارجية الأميركية جرى خفضه إلى حد كبير. السؤال الوحيد هو ما إذا كانت نبرة الخطاب أيضا ستخفض لتتناسب مع الواقع الجديد.بالطبع، لم يكن من الواضح قَـط أن الحكومات الأميركية كانت مدفوعة حقا باعتبارات إنسانية، إذ كان المنتقدون يجدون غالبا دوافع أكثر شناعة، فقد يزعم المؤرخون في المستقبل أن السياسة الخارجية الأميركية في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين كانت تقدم ببساطة رؤية شديدة الطموح للمصلحة الوطنية: حيث تطالب أميركا كل البلدان بتبني مُـثُـل أميركا العليا ومؤسساتها حتى لا يرغب أحد في التصرف ضد مصلحة أميركا، أو ربما يقولون إن الولايات المتحدة، مثلها كمثل أي إمبراطورية، كانت تفتقر إلى الصبر والحكمة للحفاظ على موقف ثابت في تعاملها مع محيطها.على أي حال، المثالية لا تكون في حقيقة الأمر مثالية إلى هذا الحد عندما تتمتع دولة ما بالقدر الكافي من القوة، والشيء الوحيد الواضح الآن هو أن أميركا لا تتمتع بهذا القدر من القوة. اتخذت مقاومة أهداف بناء الدولة التي تبنتها أميركا بعد الحرب الباردة هيئة الإرهاب الدولي، ولم تحتضين الصين وروسيا الديمقراطية طوعا، بل إن قسما كبيرا من بقية العالم ارتد إلى أشكال متعددة من القومية والاستبداد.مع سقوط أفغانستان في يد طالبان، أصبحت حدود القوة الأميركية واضحة أخيراً، وسيحتفل كثيرون لا قادة القوى المعادية فقط، بتأديب أميركا، لكن من المشكوك فيه أن تتمكن البنية الفوقية لحقوق الإنسان من البقاء دون أن تبدي أي دولة الاستعداد لاستخدام القوة العسكرية لدعمها.* أستاذ في كلية الحقوق في جامعة شيكاغو، وأحدث مؤلفاته كتاب «دليل زعماء الدهماء: المعركة من أجل الديموقراطية الأميركية من المؤسسين إلى ترامب».
● إريك بوزنر - بروجيكت سنديكيت
خلال الحرب الباردة انتهجت الولايات المتحدة سياسة خارجية «واقعية» ركزت على المصلحة الوطنية وتسامحت مع أنظمة دكتاتورية