في ظل احتدام المعركة السياسية المرتبطة بتحديد هوية الخاسر في أفغانستان، انتقلت الجولة الأخيرة في هذا الصراع من التلويح بعودة "القاعدة" المحتملة إلى الانسحاب العشوائي من كابول، إذ تؤكد المشاهد الفوضوية التي شهدها مطار أفغانستان على حقيقة هذه المخاوف، لكن على عكس ما يوحي به النقاد، ما كان الانسحاب ليصبح منظّماً مهما حصل، فمن الناحية البنيوية، سيكون تنفيذ انسحاب مُنظّم وحذر مستحيلاً على أرض الواقع.لفهم حقيقة الانسحاب الأميركي من أفغانستان، يكفي أن نفكر بقضية بيرني مادوف، ومن المفيد أن نعتبر الدولة الأفغانية التي بَنَتها الولايات المتحدة نسخة من "مخطط بونزي": كانت هذه المقاربة مجرّد وهم، وقد فهم الجميع حقيقة ما يحصل على مستوى معيّن، إذ يستحيل أن يخفى هذا الواقع عن كل من اطّلع على تقارير المفتش العام الذي عيّنته الحكومة الأميركية في آخر عشر سنوات.
لكل من لا يعرف فضيحة مادوف، إليكم بعض التفاصيل: يشير "مخطط بونزي" إلى سلسلة من الأكاذيب التي تُطرَح أمام المستثمرين باعتبارها شكلاً من العبقرية، وقد تترافق مع أساس واقعي لتبريرها أو تفتقر إليه، وتتوقف هذه الخطة على ضخ متواصل للأموال من مستثمرين جدد، وتُستعمَل المبالغ الجديدة في البداية لتسديد مستحقات المستثمرين الأصليين. طالما يستمر خداع المزيد من المستثمرين لإقناعهم بدفع أموالهم، يمكن إيجاد الأموال اللازمة لتسديد مستحقات المستثمرين السابقين، ثم تستمر الخدعة بهذا الشكل، لكن حين تزداد صعوبة تأمين التمويل المتواصل أو يبدأ المستثمرون المهمون بالانسحاب، قد يلاحظ الآخرون ما يحصل ويشككون بالممارسات المعتمدة في البداية، ثم يشعرون بالهلع ويسحبون أموالهم في نهاية المطاف، وكما يحصل في حالات الذعر المصرفي، يسارع المستثمرون إلى الانسحاب جماعياً في المرحلة اللاحقة.تذكر هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية أن "منظمي مخطط بونزي يستعملون في معظم الأوقات أحدث ابتكار أو تكنولوجيا أو منتج أو قطاع مزدهر لتشجيع المستثمرين ووعدهم بتحقيق عائدات كبرى". غالباً ما تتراجع شكوك المستثمرين المحتملين بالفرص الاستثمارية عند تقييم أي مشروع جديد أو مبتكر أو معاصر.يمكن تطبيق هذا التعريف على أفغانستان بكل سهولة، ففي المقام الأول، انتشرت وعود بتحقيق إنجازات فائقة من دون طرح مخاطر كبرى على المستثمر، وكانت تلك الوعود على شكل ضمانة بأن تهزم الولايات المتحدة الجهاديين المدعومين من جهاز الاستخبارات الباكستاني الواسع عبر نشر قوة عسكرية صغيرة والبقاء هناك لفترة زمنية مقبولة بالنسبة إلى الأميركيين، ومن دون تكبد خسائر بشرية كبرى، وظهرت هذه الخطة بعد عشر سنوات من المواقف الأميركية المتغطرسة غداة انهيار الاتحاد السوفياتي ووسط توسّع المخاوف والهلع العام بسبب هجوم 11 سبتمبر، لذا كان الرأي العام الأميركي مستعداً لتصديق الحلول السحرية.في المرحلة اللاحقة، سمع المستثمرون وعوداً خيالية من إدارة بوش حول تصميم مقاربة جديدة بالكامل للتعامل مع أزمة مريعة والتخلص من مصادر الشرور، وكانت تلك الوعود تدخل في خانة "الاستثنائية" الأميركية، وسحر العمليات الخاصة، والدقة الخارقة للطائرات بلا طيار، وغموض حرب مكافحة التمرد التي يخوضها سَحَرة يرتدون زيّاً عسكرياً ويستطعيون فك شيفرة المعارك.غالباً ما يشمل هذا العالم الساحر أفكاراً غامضة أو غير مفهومة أحياناً حول أهمية المخطط الأصلي والأسباب التي تضمن نجاحه، وفي عام 2001، عبّر ريتشارد أرميتاج، نائب وزير الخارجية في فريق الرئيس جورج بوش الابن، عن هذا الجانب المربك في تعليقاته إلى رئيس المخابرات الباكستانية الذي حاول أن يفسّر له تاريخ المنطقة المعقد، لكنه قال له: "لا، التاريخ يبدأ اليوم"!أدى دخول الجيش الأميركي إلى أفغانستان في عام 2001 إذاً إلى نسف قرون من الحياة في الوديان والجبال التي تحوّلت إلى دولة باكستان في عام 1947، تزامناً مع حصول هجرة جماعية ومذابح دينية أسفرت عن مقتل 500 ألف شخص على الأقل، ووفق هذه الفرضية السحرية، لن تُحقق النخبة العسكرية والاستخبارية في باكستان مصالحها الوطنية الخاصة التي تشمل طبعاً متابعة دعم حركة "طالبان" وإنشاء ملاذات آمنة على طول الحدود الباكستانية الممتدة على 1600 ميل مع أفغانستان.قد يكون الاقتناع باستعداد المخابرات الباكستانية لوقف دعمها لحركة "طالبان" من أخطر الأوهام على الإطلاق، لكنه ليس الوهم الوحيد، فقد روّجت إدارة بوش ومشجّعوها أفكاراً مفادها أنهم يستطيعون إنشاء دولة مركزية وموالية للولايات المتحدة في أفغانستان، مع أن هذا البلد لم يشهد يوماً على بناء دولة ناجحة. قيل أيضاً إن الأميركيين يستطيعون تغيير العادات الريفية وتعديل ترتيبات الأحوال الشخصية التقليدية، وبحسب المخطط الخادع نفسه، ستتحقق هذه الأهداف كلها خلال إطار زمني منطقي وبأقل قدر ممكن من الخسائر البشرية والمادية.لكن لم يكن أيّ واحد من ادعاءات المخادعين صحيحاً وفق معطيات هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، حيث تابع الكونغرس الأميركي تخصيص الأموال، وحصلت الإدارة الأميركية على وعود بتلقي الدعم من الدول الأخرى من دون أن يشكك أحد بفرص نجاح هذا المشروع. كان الميل إلى تأجيل الاستحقاقات المهمة مرادفاً لجذب مستثمرين جدد إلى "مخطط بونزي"، واستعمل عدد من الرؤساء الأميركيين في هذه الحالة أموالاً جديدة لدفع مستحقات المستثمرين الأصليين، وتابعت الحكومة الأفغانية تلقي الأموال، وحصل المتعاقدون على رواتبهم، وجمعت جيوش الأشباح مستحقاتها، ولقي الجنود الحقيقيون حتفهم، فكانت المعركة تطول كلما زاد حجم التمويل، وحين ينسحب أي مستثمر كبير أو يكتشف الآخرون انسحابه، تسارع الأطراف الأخرى إلى الرحيل دوماً، فقد اضطرت إدارة بايدن للسيطرة على الوضع، وحتى صفقة الرئيس السابق دونالد ترامب مع حركة "طالبان" في قطر لم تكن كافية لكبح هذه الدوامة، لكن انتهى كل شيء بعد الإعلان عن الاتفاق.وفق مصادر هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، تتعلق أبرز معالم "مخطط بونزي" بارتفاع العائدات مقابل تراجع المخاطر المطروحة وطرح استراتيجيات سرية أو معقدة لتبرير المخطط الأصلي، وتفسّر هذه الجوانب السبب الكامن وراء الحفاظ على سرية المعايير التي جمعتها وزارتا الخارجية والدفاع الأميركيتان في عام 2017 لمنع المفتش العام من الاطلاع عليها.حين اتضحت جدّية الولايات المتحدة في تنفيذ خطة الانسحاب، انهار الوضع سريعاً كما يحصل في حالات الذعر المصرفي، وفي ظروف مماثلة، لا يمكن ألا يلاحظ الآخرون ما يحصل، بل إنهم يدركون الحقيقة ويسارعون إلى الانسحاب إلا إذا سحب أحد كبار المستثمرين أمواله خلسةً.في أفغانستان، كانت الولايات المتحدة أكبر مستثمرة على الإطلاق، لكنّ إخفاء التحضيرات المكثفة عن الأفغان كان شبه مستحيل، إذ تتطلب التحضيرات الواسعة أشهراً من التخطيط، فكان إطلاق هذا النوع من التحضيرات سيكشف لجميع الأطراف المعنية أن الولايات المتحدة توشك على الرحيل، وتوقّع الكثيرون وصول هذه المرحلة بعدما بدأ ترامب محادثاته مع حركة "طالبان"، لكن لم يقتنع الناس برحيل الأميركيين الحتمي إلا بعد التأكد من إصرار الولايات المتحدة على تنفيذ ذلك الاتفاق فعلاً، وكما يحصل في أي نسخة من "مخطط بونزي"، تكون مصداقية انسحاب المستثمرين الكبار أساسية لتسريع انسحاب جميع الأطراف الأخرى، لكنّ المصداقية عامل ذو تأثير مزدوج، مما يعني أن الوقت لن يسمح برحيل الجميع بكل هدوء في نهاية المطاف.لو استنتج الأفغان أن الولايات المتحدة تستعد للرحيل فعلاً، لكانوا أدركوا سريعاً أن كل شيء انتهى، وكان الأشخاص الذين تعاونوا مع الأميركيين سيشعرون بالهلع حتماً. يزعم بعض النقاد أن الانسحاب المنظّم كان سيصبح ممكناً لو احتفظت الولايات المتحدة بقاعدة "بغرام" الجوية ومنشآت أخرى. لكنّ هذا الادعاء شائب لسببَين: أولاً، لم يصبح الانسحاب الأميركي حقيقياً لولا إجلاء القواعد العسكرية. إذا أراد بايدن أن يغادر البلد فعلاً، فعليه أن ينسحب من كل مكان. ثانياً، حتى لو بقيت القواعد العسكرية مفتوحة وظهر مؤشر واضح آخر على حصول الانسحاب، كان عدد الأفغان الراغبين في الرحيل سيفوق أي قدرات ملموسة ويُمعِن في إضعاف القوات الأميركية العالقة على طول خطوط الإمدادات. لهذا السبب البنيوي والعميق، وأي انسحاب منظّم سيكون مستحيلاً حتى لو لجأت الإدارة الأميركية مجدداً إلى المخططين الذين نشروا 156 ألف جندي على طول شواطئ نورماندي خلال ساعات معدودة تحت وابل النيران الألمانية. بالتالي، سيكون أي انسحاب مشابهاً لعملية "دونكيرك" دوماً لأنها نتيجة طبيعية لانهيار مخططات بونزي.في مطلق الأحوال تواجه الدول المعروفة بكفاءتها، مثل ألمانيا، المصاعب أيضاً ولأسباب مشابهة، لكن لا يقدّم التاريخ للأسف أمثلة كثيرة حول عمليات انسحاب منظّمة من جانب قوات الاحتلال المهزومة، ويبقى الانسحاب الفرنسي من فيتنام والجزائر، والانسحاب الأميركي من فيتنام، والانسحاب البريطاني من الهند، والانسحاب البرتغالي من إفريقيا، جزءاً من الأمثلة القليلة التي تصبّ في هذه الخانة، وفي حين يحلل العالم تداعيات الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان اليوم، يجب أن يتذكر الجميع أن الانسحاب المنظّم هو مجرّد سيناريو نظري وشبيه بمفهوم الطائرة عديمة الاحتكاك، مما يعني أنه مفيد كتجربة نظرية لكنه غير قابل للتنفيذ على أرض الواقع.
دوليات
تجربة أفغانستان نسخة من «مخطط بونزي» لخداع الرأي الأميركي
10-09-2021