كشف مراقبون ماليون أن وثائق الإصلاح التي طرحتها الجهات الحكومية لمواجهة عجز الميزانية تتشابه في المضمون، إلا أن تنفيذها شبه معطّل، مبينة أن ميزانية الدولة تعرّضت لصدمة كبيرة تحتاج الى حلول أشمل وأكبر من تخفيض النفقات والصرف من الميزانية بنسبة لا تقل عن 10 بالمئة.وبيّن المراقبون أن مضامين وثائق الإصلاح، التي بدأت بـ «إصلاح الدعوم»، مروراً بوثيقة «الإصلاح» و«استدامة»، وأخيراً قرارات مباشرة، انخفضت بنود إجراءاتها بشكل تنازلي لتصبح أقل من السابق، خاصة أنها اتفقت على ضرورة ضبط المصروفات وترشيد النفقات، رغم مرور عدة هزات اقتصادية أضرت بالموازنة بشكل لافت، كانخفاض أسعار النفط وأزمة تفشي فيروس كورونا.
وأفادت مصادر مالية «الجريدة» بأن البنود الواردة بوثائق الإصلاح والمحملة بالحلول لمواجهة العجز تقل عاماً بعد عام في الحجم والمضمون، في حين أن أرقام الميزانية في تزايد مستمر، مؤكدة أن كل الحلول المطروحة تشابهت في مضامينها، والمتمثلة في إعادة النظر في الدعوم الحكومية والرسوم وتوفير موارد أخرى لإيرادات غير نفطية بالموازنة العامة.ووضعت أزمة تفشي فيروس كورونا الميزانية العامة تحت ضغط كبير، بدليل الإعلان عن عجوزات تعد الأعلى في تاريخ الكويت خلال العامين الماضيين، نتيجة ترنح أسعار النفط لما دون مستوى 30 دولاراً، ليصعد مجدداً، والذي يعد هبوطاً لأكثر من النصف عن السعر التقديري المعد بالميزانية العامة للدولة والبالغ 50 دولارًا، مما يعني خسارة الإيرادات النفطية مليارات الدنانير.وبدأ سيناريو طرح الحلول أمام المواطن في 22 ديسمبر 2015 تحديداً عندما خرجت الى النور دراسة إصلاح الدعوم من وزارة المالية والخاصة بعرض إطار الإصلاح وخريطة الطريق، وذلك بعدما سجلت الكويت في العام المالي 2015/2016 عجزاً مالياً للمرة الأولى منذ 16 عاماً تسبقهاً بسبب انخفاض أسعار النفط.
أول وثيقة للإصلاح
أظهرت التقارير أن أول وثيقة للإصلاح طرحت تضمنت بنوداً تشابه الحلول الحالية، حيث تبنت نظام إصلاح الدعوم، الذي يقوم على مبدأ أساسي، هو رفع كفاءة الدعم المقدم من الدولة، بالتركيز على التخلص، وتقليل الهدر الناتج عن سوء الاستخدام الحالي لبرامج الدعم، وتوجيه الوفر والقدرة المحررة لاستخدامات أكثر انتاجية في الاقتصاد تماشياً مع الخطط التنموية وسياسات النمو الاقتصادي.وأشارت الى أن هناك استغلالا وتسرّبا واضحين في بعض فئات الدعوم كالعلاج بالخارج مثلاً ودعوم السلع الاستهلاكية (وهو ما طرح مجدداً عام 2021 عبر تقنين الحصص في المواد التموينية)، حيث يمكن إدراج عدد غير محدد من العمالة المنزلية كأفراد من الأسرة الكويتية، إضافة الى التعديلات التي أجريت أخيراً على القرارات، على سبيل المثال مواد البناء)، والتي قد فرضت عبئاً مالياً إضافياً على الميزانية.وتوقعت وثيقة الإصلاح الأولى آنذاك أن يبلغ العجز التراكمي كنسبة من الناتج المحلي ما يقارب 102 بالمئة سنة 2019/2020، وأن الكويت ستواجه عجزا ماليا مستمرا في حال نمو المصروفات بالنسب التاريخية مع الانخفاض المتوقع في الإيرادات، نظراً لتوقعات أسعار النفط العالمية، وهو ما تحقق خلال العام ذاته، حيث سجلت الأرقام القياسية في العجز، في ظل تراجع أسعار النفط، وسط عدم القدرة على التعامل الحصيف والصحيح مع هذا العجز.أما فيما يتعلق بطرحها حلاً في عام 2015 بأن الحل يكمن في ضرورة تمويل العجز عن طريق الديون أو تخفيض الأصول الحالية، فقد رفضت اللجنة المالية البرلمانية في مجلس الأمة خلال عام 2021 مشروع قانون الدين العام الذي سبق أن تقدمت به الحكومة من أجل السماح لها باقتراض مبلغ 20 مليار دينار، بسبب عدم وجود خطة إصلاحية واضحة لتنويع إيرادات الدولة، وبسبب عجز الموازنة لأعوام متتالية، إضافة الى الإنفاق من خلال السحب من الاحتياطي العام بشكل مباشر، وهو الأمر الذي تسبب في تآكل السيولة الخاصة بالاحتياطي العام ليدق جرس الإنذار بضرورة إيجاد حلول أخرى.وثيقة الإجراءات
وفي 13 مارس 2016 تم طرح وثيقة الإجراءات الداعمة لمسار الاصلاح المالي والاقتصادي من قبل لجنة الشؤون الاقتصادية لمجلس الوزراء، حيث بدات مقدمتها انه في ظل ما آلت إليه أسعار النفط وبسبب اعتمادها الكلي على مصدر وحيد للدخل، تواجه الكويت اليوم تحدياً استثنائياً خطيراً يهدد قدرتها على الاستمرار في توفير الحياة الكريمة للمواطنين واحتياجتهم الأساسية، ورغم هذه الإشارة المهمة في الوثيقة، فإنه لم تنفذ سوى عدد قليل من إطر إجراءات الإصلاح المالي والاقتصادي الأربعة، والمتمثلة في الإصلاح المالي وإعادة رسم دور الدولة في الاقتصاد الوطني، وزيادة مساهمة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي ومشاركة المواطنين في تملّك المشروعات. وجاءت البنود الواردة في وثيقة الإصلاح مشابهة لما تم طرحه اجتماع وزارة المالية أخيراً مع الجهات الحكومية، حيث شملت استحداث ضريبة على أرباح الشركات وإعادة تسعير السلع والخدمات العامة وتطبيق ضريبة القيمة المضافة وإعادة تسعير مقابل الانتفاع بأراضي الدولة وفق آلية عادلة تضمن حصول الدولة على مقابل عادل لاستغلال أراضيها وسرعة تحصيل مستحقات الدولة المتأخرة وفرض غرامات جزائية على المتأخرين في الدفع. أما في يتعلق بالمصروفات، فأبرزها ترشيد مصروفات كل الوزارات والهيئات والجهات الحكومية على سبيل تقنين المهام الرسمية الخارجية، وتقليص عدد اللجان وفرق العمل وخفض مكافآتها وترشيد الدعم مع ضمان استمراره ووصوله الى الشرائح المستحقة وإصلاح نظام اعتمادات الإنفاق الحالي وتطوير طرق إعداد الميزانية وتقييد الأوامر التغييرية في المشروعات العامة، وأخيراً معالجة سلبيات نظام دعم العمالة (وهو ما تمت الإشارة اليه كذلك عام 2021). وأشارت الوثيقة إلى أنها تهدف من الإجراءات الداعمة لمسار الإصلاح في مجال ترشيد الإنفاق وزيادة الإيرادات، وتخفيض عجز الموازنة والاتجاه نحو استدامة المالية العامة، الا أنها لم تحقق هدفها بشكل فعال، حيث إنه بالنظر إلى تقرير الحساب الختامي لـ 2020/2021، شهدت ارتفاعا في المصروفات بنسبة 0.7 بالمئة لتصل الى 21.3 مليار دينار وسط انخفاض الإيرادات، أي ما يعادل المليار دينار مقارنة بالسنة المالية السابقة، وأغلب الزيادة كانت في بند المصروفات الرأسمالية، أما من ناحية العجز السنوي فكان هناك ارتفاع في العجز بنسبة 174.8 بالمئة تقريبًا، ليصبح بمعدل 10.8 مليارات دينار.البرنامج الوطني للاستدامة
في عام 2018 طرحت المالية وثيقة البرنامج الوطني للاستدامة الاقتصادية والمالية، وهو برنامج تنفيذي للانتقال بالاقتصاد الوطني لمرحلة جديدة والخاص باستدامة المالية العامة وتقليص العجز الى أقل من 3 مليارات دينار، عبر ضبط الإنفاق وترشيد النفقات الحكومية، حيث كانت أولوياتها تكمن في تعزيز الآليات الرقابية لزيادة الكفاءة في ترشيد النفقات الحكومية والحد من الهدر المؤسسي في الميزانية، ووقف الصرف خارج أبواب الميزانية، وتوجيه الدعم إلى مستحقيه، وزيادة الإيرادات غير النفطية وإعادة تقدير مقابل الانتفاع بأراضي وعقارات الدولة وإعادة تسعير الخدمات، الى جانب تطوير الإدارة المالية.وجاءت الحلول الأخيرة خلال الشهر الحالي عبر طلب وزارة المالية من الجهات الحكومية تطبيق آلية مكونة من 9 نقاط، للتقشف الحكومي، بهدف مواجهة العجز في الموازنة وخطر نضوب السيولة في الاحتياطي العام، وتحصيل الديون الحكومية البالغة قيمتها 1.7 مليار دينار، حيث ناقشت قرار مجلس الوزراء الأخير بشأن نضوب السيولة في الاحتياطي العام وضرورة إيجاد حلول جذرية لمواجهة العجز في الموازنة العامة للدولة، من خلال تخفيض الصرف من ميزانية السنة المالية الحالية 2021/2022 بما لا يقل عن 10 بالمئة، وإعادة النظر برسوم الخدمات الحكومية ورفع قيمتها، ورفع كفاءة تحصيل الديون الحكومية المستحقة.ومنذ عام 2014 وبرامج الاصلاح المالي المقدمة من الوزارة كررت ذات العناوين العريضة المتعلقة بضبط الإنفاق وترشيد المصروفات، كما تعيد وزارة المالية، كل مرة في تعميم سنوي توزعه على الجهات الحكومية والتابعة لها بضرورة وضع سقف للإنفاق في مشروع ميزانية العام الجديد، حيث أكد وكيل «المالية» آنذاك أن الوزارة بدأت في اتخاذ خطوات استباقية لضبط الإنفاق الحكومي في الفترة المتقبية من العام ومشروع الميزانية، وذلك بعد التراجع غير المسبوق لأسعار النفط.حلول طارئة لمواجهة العجز
طرحت وزارة المالية عدة حلول طارئة أخيراً خلال الأشهر الماضية لمواجهة الارتفاع الحاد في أرقام العجز في الميزانية وعدم توافر السيولة، إلا أنها كانت حلولا مؤقتة ولم تصل الى نتيجة مُرضية، لاسيما أن العجز وصل الى مستويات قياسية غير مسبوقة منها في تسييل أصول الصندوق السيادي لتعويض العجز وتوفير السيولة لدفع الرواتب، ونقل الأصول غير السائلة مقابل الحصول على «كاش» فوري.وتعرّضت الميزانية العامة للمزيد من النزيف تمثّل عبر الصرف على الإجراءات الصحية والوقائية، وذلك عبر تخصيص الدولة لمبالغ لمواجهة تفشي «كورونا»، والتي زادت من حجم الإنفاق الحكومي متمثلة في مكافآت الصفوف الاولى، وتوفير المواد الأولية لمواجهة الأزمة الصحية، وهذا يعني تحقيق زيادة أخرى على العجز التقديري للميزانية.ونتيجة للسحب المستمر من صندوق الاحتياطي العام الذي يمثّل الملاذ الأقرب لتوفير السيولة، فقد تم استنزاف جزء كبير من سيولته، ومن جانب آخر تستقطع الكويت حالياً بحكم القانون ما لا يقل عن 10 في المئة سنوياً من إيراداتها لمصلحة احتياطي الأجيال القادمة.