رياح وأوتاد: لكي تنجح المبادرات بين الحكومة والمجلس
قال السيد مرزوق الغانم الأسبوع الماضي إن فترة الإجازة البرلمانية شهدت مبادرات حكومية وبرلمانية وشعبية ومن قوى سياسية، وهي تهدف إلى إيجاد تفاهمات وتسهم في تحقيق انفراجات سياسية للعديد من الملفات الشائكة، وإن هناك تقدماً كبيراً في هذه المبادرات.ولا شك أن التفاهم بين السلطتين بما يحقق الانفراج السياسي مطلوب من أجل تحقيق التعاون الدستوري والتنسيق بينهما للمصلحة العامة، ويحمي الحكومة والمؤسسة التشريعية من أي انحراف، ويعزز الرقابة الموضوعية على أعمال الحكومة، ولكن لا بد لهذا التفاهم من أركان ومقومات يجب الالتزام بها حتى ينجح ويؤتي ثماره. وقد كتبت في هذا الموضوع أكثر من مقالة منذ بداية الفصل التشريعي الحالي عندما تصاعدت الأزمة بين المجلس والحكومة، ومنها مقالة بعنوان (خطأ الإعراض عن التوافق الدستوري ) بتاريخ 28/ 12/ 2020، حيث بينت فيها أن أول مقومات التوافق الدستورية هو تسليم كل سلطة بحق السلطة الأخرى في ممارسة كل حقوقها الدستورية دون أن تكون هذه الممارسة عرضة للتأزيم أو للمساءلة، فللحكومة مثلاً حق التصويت على القوانين وإعادة ما لا توافق عليه إلى المجلس بمرسوم مسبب، بحيث لا يقر المجلس هذه القوانين إلا بأغلبية خاصة، كما أن للحكومة حق التصويت لاختيار مناصب المجلس ولجانه دون أن يكون في عملها مخالفة لوظيفتها الدستورية، أي أنه لا يجوز استجواب الحكومة إذا لم توافق على قانون اقترحه الأعضاء أو إذا صوتت لصالح مرشح معين للرئاسة أو لإحدى اللجان، وكذلك بين الدستور في المادة (57) ومذكرته التفسيرية أن الحكومة تأخذ الثقة من الأمير لا من المجلس، وبالتالي لا يجوز استجواب وطرح الثقة في الحكومة فور تشكيلها، إنما يجوز استجواب رئيس وأعضاء الحكومة على أعمالها بعد أن تعمل، كما لا يجوز استجوابها على أعمال تمت في حكومة سابقة.
هذه الأسس الدستورية وغيرها نشرها بالتفصيل بحث للدكتور عثمان عبدالملك، رحمه الله، في جريدة الأنباء بتاريخ 11/ 5/ 1985 وصدرت فيها أحكام من المحكمة الدستورية، وكذلك شرحها عدد من الأساتذة الدستوريين.وفي المقابل نص الدستور على أنه "لا سلطان لأي هيئة على عضو المجلس في عمله بالمجلس أو لجانه"، وعليه فلا يجوز للحكومة أو لأي تكتل سياسي أو برلماني أو لأي متنفذ الضغط أو التخويف لأي نائب لتحقيق الأغلبية بطرق غير مشروعة مثل الواسطات أو التهديد أو بالوعود الانتخابية أو بغيرها، ولا يجوز منع أي نائب من تقديم الاستجواب إذا كان هذا الاستجواب ملتزماً بأحكام الدستور، كما لا يجوز تأجيل الاستجوابات التي لم يتم إدراجها على جدول الأعمال، كما يحق لأي عضو تقديم اقتراحات القوانين في شتى الموضوعات التي يراها ويخالف الحكومة فيها. ومن الأسس المهمة التي كررتها اللائحة الداخلية للمجلس في أكثر من موضع (النهي عن استخدام عبارات غير لائقة أو فيها مساس بكرامة الأشخاص والهيئات). المادتان (88 و134)، وهي مخالفة وقعت في المجالس السابقة للأسف، وتكررت بشكل كبير في المجلس الحالي، أما التفاهم بين السلطتين فيحتم استخدام الألفاظ والألقاب الحسنة دون تجريح مع عدم إهمال الشدة في العبارة والإشارة البليغة إلى الأخطاء والتجاوزات. ومن الممكن أيضاً أن يقوم الأعضاء بتأجيل قضايا التأزيم والخلاف الشديد لفترة معينة يقومون خلالها بمطاردة الفساد بالأسئلة ولجان التحقيق والإحالة الى القضاء، وأيضاً إقرار القوانين الضرورية مثل قانون القيم البرلمانية وقانون يضع قواعد عامة للتعيين والترقية والوظائف القيادية وقانون تعارض المصالح وتعديل قانون المناقصات وأملاك الدولة، وعلى الحكومة التعاون معهم في إقرار هذه القوانين لأنها تحقق مصالح عامة مهمة مثل مكافحة الفساد وتحقيق العدالة وزيادة إيرادات الدولة، وبإمكان النواب أن يعودوا إلى طرح قضايا الخلاف في أي وقت يرونه.أما إذا احتدم الخلاف حول اختصاص كل طرف حسب نصوص الدستور فلا بأس بالاحتكام إلى المحكمة الدستورية لأنها السبيل الدستوري لحل هذه الخلافات، أو يكون ذلك بإصدار تشريع يتفق عليه الطرفان.ومن الأسس الدستورية أيضاً وجوب احترام وجهات النظر المختلفة حول القوانين، وعدم تعليق التفاهم المقبل بأي شروط تعجيزية مسبقة، مثل اشتراط إلغاء قوانين تراها الحكومة أنها من القوانين المهمة، مثل قانوني المطبوعات والجرائم الإلكترونية، والصحيح أن يكون السبيل إلى إلغائها أو إبقائها أو تعديلها هو تقديمها والتصويت عليها في المجلس مع بيان أسانيد وحجج كل طرف، مع العلم أن الكويت تحظى بهامش كبير جداً من الحريات بحمد الله، وكذلك الأمر بالنسبة إلى قوانين الانتخاب وما يتعلق بها لا يجوز أن تكون شرطاً مسبقاً للتفاهم في المبادرات المقبلة بسبب كثرة الاقتراحات والاجتهادات بشأنها، والصحيح هو أن تعرض وتناقش بكل حرية وشفافية في لجان وجلسات المجلس مع احترام جميع الآراء المطروحة.والخلاصة أن التفاهم يحتاج الى حوار وحكمة مع ضرورة الالتزام بالعقد والعهد الذي ينظم العلاقة بين السلطات لتحقيق التفاهم المنشود، أما الخروج عليه فقد جربته الحكومة وبعض الأطراف من قبل، ولم يؤدّ ذلك إلا إلى أوضاع كادت تنزلق بالبلاد إلى فوضى وأخطار كبيرة، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ"، وقال سبحانه: "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤولاً".