من المفترض أن يعيد الرئيس جو بايدن السياسة الخارجية الأميركية إلى مسارها قبل عهد ترامب، فقد اكتسب بايدن، الرجل السبعيني، خبرة واسعة في مجال السياسة الوطنية على مر نصف قرن، وكان المرشّح الرئاسي الذي يعكس أوضح تجسيد للنخبة الأميركية الحاكمة، فقد توقّع الكثيرون طبعاً أن يعيد بايدن إحياء الولايات المتحدة التي تسعى إلى فرض هيمنتها السياسية والعسكرية وإعادة صياغة العالم على صورتها الخاصة، حتى أن بايدن اختار شعار "أميركا عادت!" بعد تسلمه السلطة تأكيداً لمساعيه في تجديد دور القيادة الأميركية في الشؤون العالمية.لكنّ قرار بايدن بإنهاء الحرب الأميركية في أفغانستان كشف جانباً آخر من صفات الرئيس الأميركي السادس والأربعين، فمن خلال وضع حدّ لهذه الحرب القائمة منذ عقدَين من الزمن، رفض بايدن جميع الفرضيات الدولية الليبرالية الشائعة، بما في ذلك الفكرة القائلة إن بناء أفغانستان الديموقراطية وتغيير وجه المنطقة يخدمان المصالح الأميركية أو يتماشيان مع القيم العالمية المتطورة، فأعلن بايدن في مناسبات متكررة أن الولايات المتحدة تملك سبباً وجيهاً واحداً لاستعمال القوة هناك: النيل من الإرهابيين الذين نفذوا هجوم 11 سبتمبر، وقد يطلقون اعتداءات أخرى مجدداً، فبعد تحقيق ذلك الهدف، لا مصلحة للولايات المتحدة بخوض الحرب، وأضاف الرئيس أن "الشعب الأفغاني يجب أن يُحدد مستقبله بنفسه"، بما في ذلك تفضيله للعيش في دولة ديموقراطية على الطريقة الغربية أو تحت حُكم "طالبان".
لم يغيّر بايدن موقفه بعد استيلاء "طالبان" على البلد سريعاً، بل يؤكد هذا الحدث رأيه المرتبط بحدود القوة العسكرية الأميركية في أفغانستان وأماكن أخرى، وقال بايدن بعد مغادرة آخر جندي أميركي من أفغانستان إن وقف الحرب كان يهدف إلى "إنهاء العمليات العسكرية الكبرى لإعادة تشكيل دول أخرى".هذه المواقف كلها قد تفاجئ المقتنعين بوجود "عقيدة بايدن" التي تهدف إلى ترسيخ النفوذ الأميركي والدفاع عن الديمقراطية حول العالم، لكنّ بايدن المستعد لإنهاء أطول حرب أميركية على الإطلاق كان واضحاً رغم محاولات إخفاء نفسه، وعلى مر مسيرته، لطالما فضّل بايدن المقاربة البراغماتية للأمن القومي على السياسة الخارجية التقليدية، وطوال أكثر من عشر سنوات، دفعته تلك الحسابات إلى انتقاد الحروب الرامية إلى تغيير الأنظمة وأي جهود أخرى لنشر القيم الأميركية عبر القوة العسكرية.كان سلفه دونالد ترامب قد عبّر عن دوافع مشابهة، لكن بايدن يطرح بنفسه نسخة أكثر تماسكاً من الواقعية البراغماتية: يؤيد نمط التفكير هذا تحقيق المصالح الأميركية الملموسة، ويتوقع من الدول الأخرى أن تُحقق مصالحها الخاصة، ويتّجه إلى تغيير المسار المعتمد للحصول على ما تحتاج إليه الولايات المتحدة في عالمٍ تحتدم فيه المنافسة، وإذا تابع بايدن تطبيق هذه الرؤية، فسيُحدِث تغييراً مرحّباً به بعد عقود من السياسة الخارجية الأميركية التي اتخذت منحىً صارماً أكثر من اللزوم وتكبّدت خسائر بشرية كبرى وأهدرت الموارد سعياً لتحقيق أهداف مستحيلة.مع ظهور حركات التمرد في أفغانستان والعراق، زادت شكوك بايدن بمهام بناء الأوطان هناك، وفي عام 2006، طرح بايدن أبرز اقتراح له في مجال السياسة الخارجية، فأيّد تقسيم العراق وفق نظام فدرالي بحسب الانتماءات الطائفية، تمهيداً لسحب القوات العسكرية الأميركية من البلد، حيث كان بايدن يبحث عن طريقة للخروج من العراق، ومع ذلك لم يصبح معروفاً بمعارضته للحروب، وتماشياً مع الخط نفسه، عارض بايدن صراحةً زيادة القوات الأميركية في العراق في عام 2006 واعتبر تلك الاستراتيجية خطأً فادحاً.ثم ترسّخت معارضة بايدن للحروب الكبرى التي تحمل أهدافاً مفرطة حين كان نائب الرئيس الأميركي، ومن بين كبار مستشاري باراك أوباما، كان المسؤول الوحيد الذي عارض قرار الإدارة الأميركية بزيادة القوات العسكرية في أفغانستان بين العامين 2009 و2011، وبرأي بايدن، كانت الحكومة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة شائبة لدرجة أن يصبح الانتصار الكامل على حركة "طالبان" مستحيلاً، ولهذا السبب، أوصى بإطلاق مهمة صغيرة لمكافحة الإرهاب واستهداف "القاعدة" وجماعات أخرى ذات صلة.برأي منتقدي بايدن، تبدو مواقفه المتبدلة في مجال السياسة الخارجية انتهازية، وفي المقابل، يشيد مناصروه باستعداده للتعلم من تجاربه، لكن تبرز نقطة مشتركة في تحوّل بايدن من شخص معتدل خلال الحرب الباردة إلى مؤيّد للهيمنة الليبرالية ومُشكّك في بناء الأوطان: لطالما اعتبر الأمن الأميركي ركيزة أساسية للسياسة الخارجية، وهو يبدي استعداده الدائم لإعادة تقييم طريقة تحقيق المصالح الأميركية على ضوء الظروف المستجدة والوقائع الصعبة، وقد تنذر هذه الواقعية البراغماتية بتغيرات أكثر حدة في السياسة الخارجية الأميركية بعد وصوله إلى البيت الأبيض.نحو إعادة صياغة السياسة الخارجية الأميركيةإذا تابعت إدارة بايدن تفضيل مقاربة الواقعية البراغماتية على تفوّق الليبرالية، فقد تخضع السياسة الخارجية الأميركية لتغيّرات واسعة، كذلك قد يؤدي التحليل الأمني المكثّف الذي استعمله بايدن في ملف أفغانستان إلى فرض تخفيضات عسكرية مشابهة في أماكن أخرى من العالم، بدءاً بآلاف الجنود المتمركزين راهناً في العراق وسورية لمنع عودة تنظيم "داعش" مستقبلاً، إذ يخالف انتشارهم العسكري مطلب بايدن المعلن بإطلاق "مهام ذات أهداف واضحة وقابلة للتنفيذ" نظراً إلى استحالة التأكد من نجاح المهام هناك.لهذا السبب أيضاً، يجب أن يُقيّم بايدن مدى قدرة عمليات مكافحة الإرهاب الأميركية على استهداف الجماعات التي تستطيع أو تنوي مهاجمة الأراضي الأميركية دون سواها، ففي السنوات الأخيرة، شاركت الولايات المتحدة في ضربات وعمليات ومهام تدريبية مضادة للإرهاب في 85 بلداً حول العالم. استهدفت جهود كثيرة تنظيم "القاعدة" وجماعات أخرى تُهدد الأراضي الأميركية، لكن استهدف بعضها منظمات مثل حركة "الشباب" في الصومال وجماعات أخرى في الساحل الإفريقي وأميركا اللاتينية، مع أنها أقل قدرة على مهاجمة الولايات المتحدة. حتى لو أعطى تقييم بايدن نتيجة غامضة، يُفترض أن يحدّ من "الحرب على الإرهاب" خشية أن يسلّم "مهمة مفتوحة" (كما وصف حرب أفغانستان) إلى خَلَفه.يجب أن يتخذ بايدن خطوات جريئة لفصل الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط ككل، لكن في حين تعمد الصين إلى توسيع نفوذها وتحتاج الولايات المتحدة إلى إصلاحات محلية جدّية، يجب أن يوسّع نطاق تفكيره: تستطيع إدارته أن تعمل على حصر الالتزامات الأميركية في أوروبا أو وقفها بالكامل، وتتجنب مقاربة عسكرية مفرطة على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب" في آسيا، وعلى عكس أسلافه، يستطيع بايدن أن يؤيد الدعوات المتزايدة لإنشاء قوة دفاعية أوروبية خارج سيطرة الولايات المتحدة لنقل مسؤوليات أمن القارة إلى الأوروبيين. في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، ورغم دعوة بايدن إلى خوض "منافسة محتدمة" مع الصين هناك، يُفترض أن تمنعه نزعته البراغماتية من تقديم ضمانات صريحة للدفاع عن تايوان أو توسيع الالتزامات المفرطة أصلاً في تلك المنطقة.لكنّ الواقعية البراغماتية التي يتمتع بها بايدن ليست حلاً شاملاً لجميع المشاكل، ففي المسائل الأساسية، تتخذ مقاربته اتجاهات متناقضة في مجال السياسة الخارجية، وقد سمحت له دقته في رصد التيارات السياسية بإنهاء الحرب في أفغانستان، لكنّ الحروب الأميركية المتبقية لا تحظى بتغطية علنية مشابهة مع أن المنطق الاستراتيجي الذي ترتكز عليه لا يقلّ عنها شُبهة. لم يعارض بايدن قرار إدارة أوباما بتوسيع الحرب على الإرهاب عبر الضربات الجوية وعمليات الكوماندوز، مع أنه امتعض من نهج الاحتلال بهدف بناء الأوطان في الخارج. قد تمنعه نزعته البراغماتية اليوم من أخذ المجازفات السياسية التي تحتاج إليها أي رؤية واقعية مؤثرة.وبدافعٍ من البراغماتية أيضاً، قد يقرر بايدن التحرك ببطء شديد لتقليص الالتزامات البالية التي لم تعد تخدم مصالح الأمن الأميركي، فإذا تمكّن الأوروبيون من الدفاع عن أنفسهم (لن يكون الحفاظ على حجم حلف الناتو الراهن كافياً)، يجب أن يحدّ بايدن من الدور الأميركي في ذلك التحالف. الأهم من ذلك هو أنّ مقاربة بايدن تجاه الصين (أي تأجيج المنافسة الجيوسياسية، والترحيب بالتعاون لمعالجة التحديات المشتركة، والحفاظ على هامش معيّن لإطلاق الجهود الدبلوماسية) قد تبدو براغماتية على المدى القصير لكنها ستكون غير قابلة للتنفيذ وغير منضبطة خلال السنوات المقبلة، يجب أن يستفيد بايدن من التهديدات العسكرية التي تطرحها الصين حتى الآن ويسهل السيطرة عليها لإعطاء الأولوية للتواصل الدبلوماسي حول مسائل مثل التغير المناخي والتجارة، ولإخماد حملة شيطنة الصين منعاً لنشوء حرب باردة جديدة.لقد أثبتت الأشهر الأولى من عهد بايدن أن السياسيين المخضرمين أيضاً قادرون على إحداث المفاجآت، لا سيما إذا كان شعارهم ينذر بتغيّر مواقفهم مع تبدّل الظروف، فبايدن ليس سياسياً متطرفاً بأي شكل، لكن بعد عقود من تطبيق نهج متطرف في مجال السياسة الخارجية ومواجهة سلسلة من الكوارث بسببه، قد تبدأ مقاربته على الأقل بإعادة إحياء دور الولايات المتحدة في العالم.
دوليات
جو بايدن الواقعي
17-09-2021