نشرت قصتي القصيرة الأولى في جريدة الوطن الكويتية بتاريخ 17 يناير 1978، ولم أكن أعلم يومها أن الفرحة التي صاحبت نشر تلك القصة، كانت طُعماً كبيراً ابتلعته دون أدري!شابٌ ينشر قصته الأولى بتقديم من الروائي الكويتي/ العربي إسماعيل فهد إسماعيل، وفي واحدة من أهم الصفحات الثقافية بمنطقة الخليج في حينه، وقد احتلت الموضوع الرئيسي في الصفحة.
أخذني تفكيري بعيداً وأنا أطالع الصفحة، وصوّرت لي خيالاتي الشبابية مواقف ومواقف، حيث اعتقدت أنني سأبلغ مُناي من الكتابة مع القصة التالية، ولم أزل بعد مرور ما يزيد على الأربعة عقود أغصّ بالطُّعم، وأنتظر القصة التالية التي ستحقق شيئاً من الأحلام التي خطرت ببالي في ذلك اليوم. أكثر ما يخدع الشاب في النشر الأول، هو اعتقاده بأنه خطا الخطوة الأهم، وأنجز النجاح الأهم، وقطع الشوط الأكبر، بينما الحقيقة هي أن النشر الأول هو بدء السير على درب المتاعب، وهو الخطوة الأولى لتلوين حياة الكاتب بلون الانشغال الذي لن يتركه أبداً، وهو قبل هذا وذاك، السراب الذي لاح لكل كتّاب العالم، ولا يزال يلوح لهم كي يظلّوا يجدّون في السير نحوه، وكأنّهم منوّمون بداء الكتابة، أو منذورون لدفع ضريبة أعمارهم مقابل الكتابة!بعد نشر قصة وثانية وثالثة، وعاشرة، جاء بعض الأصدقاء ليهمس بأذني: "صار يجب أن تنشر خارج الكويت". استمعت لتلك النصيحة وبدأت بمساعدة أصدقاء كُتّاب وصحافيين وإعلاميين بنشر قصصي خارج الكويت. وكما كان للنشر الأول في الكويت لذّته وأحلامه الوردية، فإنّ النشر في المجلات الثقافية الخليجية والعربية، وتذيّل قصصي بكلمة "الكويت"، كانت له لذة مختلفة، وزهو مختلف، وأحلام مختلفة!ربما من أكثر الهواجس التي تصاحب رحلة أيّ كاتب، اعتقاده بأن النشر يزيد من حضوره، ومن رصيده، ومن وصوله للقارئ، وسيصل به إلى كل منبر أدبي، وكل قارئ وناقد مهتم!ومع الأسف، هذا ليس بصحيح على إطلاقه. فالنشر يزيد من حضور الكاتب، لكنه حضور مقترن بمدى قدرته على الإتيان بجديد، وبقدرته على تجاوز ما قدّم بفنية، ومقترن أيضاً بقدرته على خوض مغامرات التجريب، ومغامرة كسر كل قواعد الجنس الأدبي الذي يكتب فيه. لذا، إذا ما قرأ قارئ قصة لكاتب وأعجب بها، فإنّ تلك القصة ستكون مقياس علاقته بالكاتب، وكلما قرأ جديداً للكاتب، همس نفسه: "قصته السابقة كانت أفضل!"، وهذا ليس في مصلحة الكاتب، حتى يُقال عنه: "لم يكتب إلا قصة واحدة!"، أو يُقال عنه: "كتب قصة واحدة ولم يستطع تجاوزها"! أو: "هي قصة واحدة كتبها ولم يزل يروح ويجيء من حولها"! إذن، النشر سباحة جديدة في نهر الكتابة، ولأنّ الماء لا يجري في النهر نفسه مرتين، فكل سباحة هي عوم في مياه جديدة، وكل كتابة هي كتابة أولى مع القارئ ومواجهة أولى مع القارئ، ورهان جديد مع القارئ، وامتحان جديد لموهبة الكاتب وجديته وقدرته على تجاوز نفسه! ولأنّ أحد أهم المعلمين الأفاضل الذين درست على يدهم هو الأستاذ عبدالمحسن البراك، يرحمه الله، أمسك بي في إحدى جلساتنا ونظر إليّ بهدوئه الذي أعرف وظل صامتاً لبرهة قبل أن يقول: "ماذا ستفعل بقصصك التي تنشر؟"، استغربت سؤاله، فما الذي يمكن أن يفعل كاتب بقصص ينشرها؟ ولأنّه المعلم الهادئ الذي طوّف بي في بداية حياتي بعالَم قراءة الأدب الروسي، ومن ثم الأدب الأوروبي، وتحديداً ملاحم الرواية العالمية، ومعاً قرأنا الأدب الأميركي، ومطوّلاً وقف بي عند رواية "عناقيد الغضب" للكاتب الأميركي جون ستاينبيك -John Steinbeck، وكذا رواية "الصخب والعنف" للكاتب وليم فوكنر- William Faulkner، راح معلمي ينظر إليَّ ولسان حاله يقول: "هات إجابتك"!
توابل - ثقافات
في النشر العربي (2)
19-09-2021