الإعلام الإلكتروني بين ثورة المعلومات وبين الكذب والافتراءات (2-2)
تناولنا في مقال الأحد الماضي ثورة المعلومات التي أضاءت بنورها الساطع عالم المعرفة والبحث لخير البشرية، وأنها لم تكن الوحيدة التي أسيء استخدامها في قبح الكذب والافتراءات الذي ملأ الدنيا ضجيجاً وصراخا وصخبا لزعزعة الثقة في حقائق العلم والمعرفة، بل أسيء استخدام الثورة الصناعية لطرد العمال من المصانع بعد مكينتها، فنشأ الدفاع عن حقوق الإنسان في أوروبا، وكيف أسيء استخدام الديناميت الذي اخترعه نوبل لقهر الطبيعة لخير البشرية، فأسيء استخدامه في الحروب لفناء الإنسان، وكيف ندم على اختراعه فخصص جزءاً من ثروته الطائلة التي حققها من هذا الاختراع، لجائزة نوبل لمن يكتشف في المجالات التي حددتها شروط الجائزة خيراً للبشرية، وكيف ندم رذر فورد على اكتشافه الذرة، فأسيء استخدامها لصنع القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي، وخطراً يهدد البشرية بالفناء، ونتناول في هذا المقال: القبح في الإعلام الإلكتروني
هو غياب أدب الكلمة والخطاب والحوار والاختلاف، وتفشي ثقافة الكذب والافتراء في مغالطات فجة تخلط بين الرأي وما هو مباح من نقد وبين السب والشتم والقذف في قنوات التواصل بل التنافر الاجتماعي في مجتمع الإسلام فيه دين الدولة، فالكلمة لها قداستها، وقد كانت أول كلمة نزل بها القرآن كلمة (اقرأ) في سورة القلم.يخاطب المولى عز وجل رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، بقوله سبحانه: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"، ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت".اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقه قولي، لأقول خيراً لمن حادوا عن أدب الكلمة والخطاب والحوار والاختلاف، إلى سب وتجريح الآخرين.النقد المباحوالاختلاف في الرأي سنّة كونية، قال فيها، المولى عز وجل: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، فتلك حكمته وسنته في كونه،والنقد المباح، كما عرفه القضاء، الذي صانت أحكامه قداسة الكلمة وأدب الحوار والاختلاف يقول في حكم له: "إن النقد المباح هو إبداء الرأي في إجراء أو عمل دون المساس بشخص من قام بالإجراء أو العمل، فيخرج عن دائرة النقد ما يلي: ● أن يجاوز حدود النقد وغايته إلى التشهير بالشخص أو الحط من كرامته. ( نقض مصري 3087 لسنة 62 قضائية).● أن القذف يتحقق بكل صيغة ولو كانت تشكيكية متى كان من شأنها أن تبقى في الأذهان عقيدة ولو وقتية أو ظنا أو احتمالا في صحة الواقعة المسندة إلى المجني عليه. (نقض مصر 9194 لسنة 71 قضائية)● وأنه يعتقد في ثبوت جرم السب أو القذف بمرامي العبارات وبتبين مناحيها، وما إذا كانت المصلحة العامة هي الهدف من النشر أو التشهير بالشخص (نقض مصري 1769 لسنة 66 قضائية)وجها الإعلام الإلكتروني فالإعلام الإلكتروني له وجهان: وجه جميل ساطع بنور المعرفة ووجه قبيح مليء بالكذب والافتراءات، وفي هذا السياق أستعيد من الذاكرة اسم فيلم من أفلام ديزني beauty and the beast، وترجمته (الجميلة والوحش)، معدلا على مقتضى الحال في هذا السياق الجميل والقبيح، فالإعلام الإلكتروني في وجهه القبيح له كالمرأة الخليعة، لا تستهوي الرجال بجمالها بل أحياناً، رغم قبحها، بخلاعتها وعريها وكذبها، وقد غاب الحياء من قاموس حياتها. وقد اعتصم هذا الوجه القبيح من الإعلام رغم كذبه وقسوته، وخوضه في أعراض الناس وامتهانه كرامتهم، بحرية الرأي وحق التعبير عنه اللذين كفلهما الدستور في المادة (35)، ولئن كان السبّ والقذف مؤثمين جزائيا بأحكام قانون الجزاء رقم (16) لسنة 60 في المادتين (209- 216) إلا أن تحريك الدعوة الجزائية ضد مرتكب القبح الإعلامي الآثم، رهن بشكوى يقدمها المجني عليه إلى جهات التحقيق، حيث تترفع القامات الكبيرة في عالم السياسة والمال والعلم والأدب وتتعفف عن استدراجها إلى خوض معارك في ساحات المحاكم مع من لا يتطاولون إلى قامتها من الصغار الذين لا يملكون إلا الحجارة. فالأشجار الباسقة هي التي تلقي بها، وليس لهؤلاء أدنى صلة بالعلم أو المعرفة أو بمكارم الأخلاق، فهم أشبه بالخفافيش التي لا تعيش أو تطير إلا في الظلام، ظلام الرؤية والضبابية التي يعيش فيها عالم خطيئة الإلكترونيات منعزلا عن الناس وعن المجتمع وثوابته الدينية والأخلاقية والمجتمعية. وفي هذا السياق فإن رئيس الولايات المتحدة الأميركية نيكسون أراد أن يرد على من وصفه من الصحافيين بأوصاف بذيئة، فنصحه كيسنجر بألا يفعل قائلا له: إن لدى الصحف أطناناً من الحبر الأسود تستطيع بها أن تشوه صورتك أمام الشعب الأميركي.ولم يجد الرئيس الأميركي ترامب من ينصحه، أو بالأحرى من هو قادر على أن يقدم له النصيحة كنصيحة كيسنجر، فقد كان مولعاً بالجدل مع الصحافة والإعلام ففقد شعبيته لدى الكثير من الناس، وخسر الانتخابات في ولايتين من أكثر الولايات تعصبا لحزبه الجمهوري، ونجح بايدين الرجل الهادئ الوقور الذي تميز بعفة اللسان. ولم ينل من تاتشر المرأة الحديدية رئيسة وزراء بريطانيا ما وصفها به أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني في أحد اجتماعاته أانها أشبه ببنات شارع سوهو، وهو شارع معروف عنه بأنه يجمع بنات الهوى، فردت عليه المرأة الحديدية، قائلة: يبدو أن العضو لا يعرف أن هذا الشارع هو أحد شوارع بريطانيا العظمى التي نعتز ونفخر جميعا بالانتماء إليها.وفي هذا السياق أيضا فإنه من المعلوم أن الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل ظل لا يرد على من انتقدوه وأساؤوا إليه طيلة حياته التي امتدت إلى التسعين، ولا أجد ما أختم به هذا الحديث أفضل من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت". وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.