يقول في كل صباح أذكر نفسي بأن دوام الحال من المحال، وأن هذا المنصب والكرسي الفخم والترحيب والاستقبال في كل مكان، والولائم والهدايا والمديح كله زائل كزبد البحر.. مثله مثل كثيرين وكثيرات وجدوا أنفسهم فجأة من مواطنين عاديين جداً، حتى لو كانوا متفوقين في أدائهم في وظائفهم، وزراء ومديرين ومسؤولين كباراً في حكومات ودول ومنظمات محلية ودولية. فجأة يصبح هو أو هي موضع ترحيب واستقبالات حافلة ودعوات للعشاء والغداء وحفلات صاخبة ويبرزون في صدر المجالس الكبيرة، وتكثر الهدايا الثمينة، ففي البدء قد يرفض النزيه منهم مثل هذه المعاملة الخاصة أو الهدايا الفاخرة، ولكن ومع الوقت "يستحلي" هذا المسؤول هذه المعاملة الخاصة والرفاهية المستمرة التي لم يعتدها حتى لو حافظ على كثير من نزاهته/نزاهتها أو إخلاصه لعمله والتزامه بعدم تقبل "الإكراميات" مقابل الخدمات!
تكتشف أن غواية الكرسي للكثيرين كبيرة جداً، وأكبر من قدرات الكثيرين رغم أنهم يرددون كذاك الصديق أو تلك الصديقة بأنهم لا يريدون اعتياد هذه الحياة لأنها زائلة، خصوصاً أنهم يدركون أن استدامتها في كثير من دولنا ومنظماتنا مرهونة بمزاج المدير ورئيس الحكومة أو الأمير أو الحاكم أو الأمين العام.. تسميات مختلفة وفي مجملها هي نفسها في كل مكان رغم محاولة بعضهم تلميع صورة بعض التسميات على حساب تسميات أخرى!للكرسي غواية حتماً وإلا ما الذي حدث له أولها بعد أقل من عامين من الجلوس على ذاك المنصب الذي كان من الواضح ومنذ البدء أنه أكبر بكثير من قدراته أو قدراتها. تبدأ غواية الكرسي من كثرة الطلبات للقاء وإعطاء الأولوية له، أولها في أي مكان أو تجمع، والجلوس في الصفوف الأمامية في الاحتفالات وصالات الاستقبال الخاصة في المطارات أو حتى الطائرات الخاصة التي تقلهم من مدينة إلى أخرى، ومن فندق خمس نجوم إلى آخر بسبع نجوم.. وموائد الطعام الممتدة وإلى المجاملات الممجوجة والمديح المبتذل بإنجازات ليست حقيقية أبدا والأخطر أن يصدق أحدهم بأنه أصبح بالفعل ذاك المسؤول "العبقري" الذي قام بإنجازات سيذكرها له التاريخ!ربما هو مرض الكرسي أو هو داء منتشر في بقاع الأرض كلها، رغم أنه مستشرٍ بشكل كبير في دولنا وعواصمنا ومنظماتنا عنه في تلك الدول التي تعرف أن المنصب ليس "إلى الأبد إلى الأبد" والمعتاد هو تداول المناصب وتقييم الأداء بشكل علمي لا "حسب المزاج والمصالح" وإمكانية فصل المسؤول إذا فشل في أداء دوره بما في ذلك الوزير أو حتى الطلب منه أن يستقيل لمن يحترم نفسه وعمله، فالاعتراف بالخطأ ليس جريمة بل هو يعلي مركز الإنسان ويجعل احترامه أكثر، في حين يبقى الكثيرون مسؤولين عن مصائب أدت إلى إفلاس حكومات ودول، ومع ذلك يبقون ملتصقين بكراسيهم ومناصبهم وألقابهم وكأن فقدانها يعني موتهم ونهايتهم.كم هي درجة غواية الكرسي؟ سؤال إجابته سهلة جداً فبنظرة سريعة لمحيطين من أصغرهم إلى أكبرهم في المنصب ومراقبة كيفية تطور التصاق هذا المسؤول أو المسؤولة بذاك الكرسي مهما كان صغيراً، أليست معظم المناصب صغيرة جداً إلا في مسؤوليات ذاك المسؤول؟ وهي كبيرة في أذهان ضعاف النفوس وهم كثر!"كراسي" تحكم وتتحكم في مصير بعضهم أو الكثير من البشر، "كراسي" ومناصب يتصور بعضهم أنها تحول الفأر إلى أسد والجاهل إلى عالم والمدعي إلى خبير سياسي أو عسكري أو مفكر.. أسماء وألقاب لها غواياتها المثيرة أحيانا للشفقة وكثيراً للقرف، خصوصاً لدى من يتصورون أن الكراسي تصنع منهم آلهة مقدسة! وتجعلهم بشراً من درجة ممتازة أو ما فوقها رغم أن التاريخ الحديث منه قبل القديم مليء بالأمثلة عن هشاشة الكرسي أو المنصب وتحوله من حقيقة واقعة في ليلة معتمة إلى اللا شيء أو العدم في ساعات الصباح الأولى. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
غواية الكرسي
20-09-2021