ليسوا وافدين... بل «مقيمين» في الوجدان
يتم تكرار وصف زمن ما بالعصر الذهبي للكويت، ولكن ما الذي يجعل منه ذهبياً أو ماسياً أو خشبياً؟ مع تحفظي عن قياس النجاح بالمعادن، فالإنسان هو أثمن المعادن، وهو صانع القيمة لا العكس. أدركَت الكويت مبكراً هذا الأمر البديهي؛ لذا كان تفوقها في مجالات عدة قبل أن تغزوها مفاهيم الرِّدة، ومنها الاعتقاد بأفضلية أصحاب الدماء (أو الجوازات) الزرقاء على سائر العالمين. من المفارقات أن وصف "الدماء الزرقاء" أُطلِق على طبقة أوروبية مترفة تميزت بشرتها بلون أوردتها السطحية الزرقاء بفعل بياض بشرتها خلافاً للطبقة العاملة التي صبغتها حرارة الشمس باللون البرونزي، قبل أن يصبح "التان" لاحقاً إحدى سمات الجمال والجاذبية!في كتابه الشهير "ملوك العرب"، أرّخ الرحالة والأديب أمين الريحاني زيارته للكويت عام 1923 ذاكراً أن الكويت مدينة تجارية نشطة لا تقوم ولا تنمو بسكّانها فقط، ولو اعتمدت عليهم لما بلغت الإنتاجية ربع ما كانت عليه آنذاك! فأين نجد أنفسنا بعد قرابة القرن من ذلك التوثيق؟ نجد أن المفاهيم تداخلت، وبات الحديث عن غير الكويتيين سلبياً في الغالب، وهو حديث يحلو للعنصريين أنصار اللون الواحد الذين تسللت مفرداتهم ومفاهيمهم مستغلة تدني الإنتاجية العامة والخاصة، متناسين أن الانحدار وباء لا يفرق بين كويتي وغيره. من تلك المفردات مفردة "الوافدين" التي راجت أخيراً على حساب أختها "المقيمين"، والفرق بينهما كالفرق بين قابيل وهابيل، فالأولى تدل على الغربة وحصر الوجود بزمن مؤقت، بينما تدل الثانية على شعور التعايش والاشتراك معنا بذات المصير، بمجرد البحث عبر "غوغل" عن كلمة وافدين سنجد مدى سلبية أخبارها وارتباطها الشَّرطي الكبير والمؤسف بالكويت.
لم تكن الكويت في زمن ريادتها سوى بستان جميل احتوى على أزهار وأشجار نضرة، منها شجرة الفن ذات غصن المسلسلات التلفزيونية وخصوصاً في العقد الممتد بين عامي 1975 و1985 الذي شهد ذروة تفوق تلفزيون الكويت. وبالاستناد إلى قائمة قامت بإعدادها الباحثة مريم المحميد المتخصصة "ماجستيرياً" في مسرح صقر الرشود، يتضح قيام التلفزيون بإنتاج 26 مسلسلاً في تلك الفترة باختلاف أنواعها (اجتماعية، كوميدية، تربوية،...) يمكننا أن نَصِف نِصفها على الأقل بالامتياز، وهي قائمة تضمنت بحسب تسلسلها الزمني (درب الزلق، والأقدار، والإبريق المكسور، وحبّابة، ومذكرات جحا، وعلاء الدين، وإلى أبي وأمي مع التحية (جزأين)، ودرس خصوصي، وبدر الزمان، وخرج ولم يعد، وخالتي قماشة، والغرباء). بمجرد قراءتنا لأسماء تلك الأعمال تُضاء ذاكرتنا بوهج نجوم الشاشة، ولكن يغيب عن الذاكرة تصدي الإخوة "المقيمين" لـ 70% من تلك الأعمال تأليفاً وإخراجاً بما تحتويه من أهمية فائقة في العمل الإبداعي، فقد تصدى الفلسطيني طارق عثمان (1946 - 2004) وحده لتأليف خمسٍ من القائمة المميزة، وهو الذي غادرنا ضمن المغادرين أثناء الاحتلال العراقي، كما تصدى المصري حمدي فريد (1916 - 1987) لإخراج سبعٍ منها، ولولا رحيلهما المبكر نسبياً لحصدت الكويت المزيد من الإبداعات الخالدة.استشهادي بتلك النماذج المشرّفة والمشرقة لاهتمامي الشخصي بالحقل الفني، وهي نزر يسير من إسهامات الإخوة المقيمين بمختلف القطاعات من صحة وتعليم وغيرها، والتي ساهمت بما أسميناه بالزمن الذهبي، فهل يليق بمن ساهم في طلاء تاريخنا بذلك اللون البرّاق في شتّى المجالات تسميتهم بالوافدين؟ أم يتوجب علينا القول بصدق واعتزاز أنهم "مقيمين" في الوجدان وفي ذاكرة الكويت الوفية؟