كنت قد تلقيت دعوة لإدارة الحوار في حلقة نقاشية مؤخراً للجمعية الكويتية للعلوم والتكنولوجيا والابتكار، وبالأخص لمناقشة موضوع الإنفاق وميزانية البحث العلمي وتقليصها في ظل سياسات الدولة الآنية، فقط ليتم تقليب المواجع وتهييض الجروح الغائرة الدامية التي تخص الموضوع ذاته لدينا في الكويت، فقطاع البحث العلمي وميزانيته ومناقشته فعلا تستحق حلقات نقاشية ممتدة، ولعمري لهو موضوع يستحق التشريح الدقيق المتمعن لمشاكل هذا القطاع الممتد والملامس لعدد من الجهات في الدولة، ومن ثم الانتقال إلى حيثيات الموضوع من زواياه المختلفة، وللعلم فإن قطاع البحث العلمي والدراسات والاستشارات ها هنا لا يقصد به (حكراً) جهة حكومية بذاتها، ولكنه قطاع، كما أسلفت، ممتد إلى عدد من المؤسسات الحكومية، ويشكل عصب الحياة لعدد من الروافد التقنية المهمة، على الأقل في دول تقدره بالشكل الصحيح، وأي تغيير في ميزانياته سيعود بالسلب قبل الإيجاب "الصوري" على عدد من الجهات والسوق والناتج المحلي كذلك. فمن المعلوم بالضرورة الوقوف على عدد من الأسباب التي جعلت هذا القطاع على مستوى الدولة "فريسة" سهلة للتفكير حتى في استقطاع ميزانيته والأصل هو دعمه أكثر وأكثر، والنظر إلى أماكن وبنود أخرى فعلا تشكل هدرا حقيقيا، ولتفادي إشكال أني أقصد الدفاع أو الهجوم المقصود ضد قيادات دون الأخرى، فالمقال يناقش الفكرة بشكل موضوعي بعيداً كل البعد عن الشخصانية، فما زلت على قناعة (كما غيري) بأن الكثير من قيادات البحث العلمي وفي أماكن متعددة هي التي أفقدت هذا القطاع الحيوي أهميته في أعين الكثير، وجعلته فريسة سهلة لتقليص الميزانيات، وكما يعاني الكثير من العاملين والمهتمين في هذا القطاع بسبب تلك القيادات القليلة الكفاءة والقليلة الحيلة والتفكير باتخاذ وصناعة القرار، ها هو البحث العلمي الآن محل تقليص لميزانياته ولا يجد في الواقع من يدافع عنه حتى من منتسبي قطاعاته المتعددة في الدولة.
فتلك القيادات (إلا من رحم ربي) كانت على مدار سنين طويلة لا تستطيع حل المشاكل الساطعة اللامعة البينة على مستوى هيئاتها البسيطة ودوائرها الضيقة، فكيف لها حل مشكلة الإنفاق وتبرريه في الدولة؟ وهنا تكمن مشكلة أسميها شخصيا "مشكلة إدارة البحث العلمي"، فتجد العديد من أصحاب الكراسي وفي أماكن مبعثرة وكثيرة جداً غير قادرين على صناعة واتخاذ القرار الصحيح ومواكبة القطاع ذاته، لأنهم وببساطة غير مدركين ومستوعبين مدى أهمية البحث العلمي ذاته، فعتبنا و(الشرهة) على من أوصلكم إلى هذا الكرسي حقا.كان قطاع الأبحاث والدراسات والاستشارات ومازال في الدولة ومنذ زمن بعيد يقارب الخمسين عاما يعاني الشح والصرف القليل وقلة الميزانيات والموارد، فما بالك بعد التوجه الأخير في تخفيض ميزانيات هذه السنة المالية قرابة الـ10% وفي السنة المالية القادمة إلى ما هو مقترح بـ50%، وهنا نستطيع فهم أس المشكلة بسبب وجود "البعض" في بعض الأماكن وعدم فهمهم أصلا طبيعة البحث العلمي ولا حتى أهميته رغم انتسابهم لأحد قطاعاته أو عدم قدرتهم على إدارته حق إدارة من خلال مناصبهم. كما نجد أن النظرة العامة لدى الكثير ترى أن البحث العلمي في الدولة هو في الواقع "ترف" لا داعي له، وهذه مصيبة في الفهم حقيقة، وهي أيضا ممتدة ومتأصلة في عقليات بعض "الديناصورات" الذين يديرون عدداً من المؤسسات والقطاعات إلى درجة أنهم لم ينبسوا ببنت شفة للدفاع عن حق البحث العلمي في الدولة ولا حتى بحق منتسبيه من الكوادر الوطنية ولا إنجازاتهم رغم تواضع الإمكانات، وكانت أقاويل تقليص الميزانيات تمر عليهم مرور الكرام، فما بالك في من يطبل لمثل هذه السياسات؟! على الأقل من صمَت صمْت القبور لم يظهر بمنظر الشخص غير اللائق على عكس من "طبّل" ومن ثم احترقت يداه مع طبله ومزماره. عموما وبلغة الأرقام فإن البحث العلمي لم يشكل عبئاً على مصروفات الدولة أبداً ومنذ الأزل، وبنظرة سريعة لما تصرفه دول كالولايات المتحدة الأميركية، والصين، واليابان وألمانيا، نجد أن تلك الدول تنفق قرابة الـ3% من ناتجها القومي على البحث والتطوير وبشكل مباشر وبلغة الميزانيات أي ما يفوق الـ130 مليار دولار سنويا في حالة ميزانية دولة كألمانيا، وما يفوق النصف ترليون دولار في حالة بلاد كالصين والولايات المتحدة بحسب إحصائيات عام 2019، وللعلم فإن هذه الدول الأكثر تسجيلا لبراءات الاختراعات وانصباب تطوير أعمالها وتكنولوجياتها في السوق المحلي والتي يتم تصييرها لاحقا في سلسلة تقنية اقتصادية تشكل عصباً ورافداً لاقتصاد البلاد، ولو تمت مقارنة مثل تلك الأرقام والإحصاءات وأسقطناها على الكويت لوجدنا أن الموضوع مختلفٌ جداً وإلى أبعد الحدود، ففي عام 2018 تم الإنفاق بمعدل 0.06% فقط من ناتجنا القومي على البحث العلمي وبمعدل متوسط يقارب الـ0.15% للأعوام ما بين 2014 و2018، أي بمعنى آخر بما لا يزيد على الـ70 مليون دولار في السنوات الأخيرة!!يقدر العالم الأول المتحضر في أقصى شرق وغرب الكوكب الأزرق أهمية ومكانة ووجوب البحث العلمي، وكيف له أن يشكل العصب للاقتصاد والتطوير وخلق فرص العمل والسوق الصناعي التنافسي، ولعل الجائحة التي ما زلنا نمر بها كشعب في إحدى الدول النامية الريعية، تشكل أكبر مثال وخير دليل على أهمية البحث العلمي والتطوير، فهل يتصور العقل البشري أن الناس في إحدى الدول المصنعة للقاحات أو تلك الدول المصدرة للبروتوكولات العلاجية ضد الكوفيد، يفكرون بأن البحث العلمي مسألة ترفيه ويجب علينا أن نستقطع من ميزانية هذا البند في الدولة؟! قطعاً، لا، بل يتم تعزيزه وتشجيعه ودعمه، بل لن تجد نصف البيروقراطية القاتلة التي نملكها هنا في الكويت، وستجد سلاسة في التعامل إلى أبعد الحدود، وبيئة حاضنة للعلم والمبدعين بشكل كبير (باختصار كل ما ينقصنا هذه الأيام).الأمر المحزن حقاً والذي يشكل غصة في قلب كل باحث علمي أو محب للعلوم والتكنولوجيا في الدولة، أنه كان للكويت فرص جمة للصدارة في أمور عدة، ولكن مع الأسف لم تغتنمها، وظلت متفرجة على خطوط التماس لا أكثر، فقد تكالبت وتعددت الدراسات واللجان التي لطالما أوصت بأمرين واضحين جداً وهما:1- زيادة الإنفاق على البحث العلمي في الدولة وجعل الأمر واجباً وكمرحلة أولى، ويجب أن يصل هذا الإنفاق إلى 1% من الناتج القومي الكويتي سنويا. 2- التركيز، وبغض النظر عن الميزانيات، في مجالات مهمة وواضحة المعالم كما أوصت عدد من التقارير في السابق، وكمثال فقط التركيز على أبحاث موارد المياه والطاقة المتجددة. ولكن وبواقع الحال لم تتم الاستجابة من المشرعين ولا المنفذين لهذا الأمر البتة، لكن لننظر إلى أحد أهم الأمثلة في نطاقنا و(حولنا وحوالينا) ألا وهي الشقيقة المملكة العربية السعودية التي تصدرت البحث العلمي والتطوير وتشجيع الاستثمار في رؤية متطورة ومتجددة مؤخرا، والنتيجة كما هو متوقع من بعد إنفاق 0.8% من ناتجها القومي على البحث العلمي أصبحت السعودية تحتل المركز 42 عالمياً في الإنفاق على البحث والتطوير، وتنشر 0.6 ورقة علمية لكل ألف نسمة منافسة بذلك أهم ثلاثين دولة في النشر العلمي والاختراعات التي بدأت تحظى بالدعم من الدولة بشكل ملحوظ متناسق مع سوقها المحلي، كما هي الحال أيضا مع جاهزية التكنولوجيا للتسويق والتطوير لباقي دول المنطقة. علينا أن نقف وقفة جادة وحقيقية لدعم البحث العلمي في الكويت الآن وليس في المستقبل، لأن البحث العلمي اليوم قد ينقذ مستقبل أجيالنا القادمة ويخلق الفرص الحقيقية للعمل والتطوير، ويكون "سبيلنا المخلّص" في القادم من الأيام في زمن ما بعد النفط. على الهامش: إن لم تمكن الكفاءات في مجال البحث العلمي بعيداً عن الترضيات والمساومات وشراء الولاءات، فعلينا وعلى مستقبل أولادنا السلام.
مقالات
تقليص الإنفاق وميزانيات البحث العلمي
23-09-2021