في عالمنا العربي والإسلامي، تقف الدولة، اليوم، رغم إمكاناتها الضخمة، عاجزة عن توفير الدرع الواقعية لحماية هويتنا الثقافية والفكرية العربية والإسلامية، فهي- أي الدولة- يغيب عنها التوجه الاستراتيجي في حفظ هذه الهوية، ويرجع ذلك إلى جملة من الأسباب والعوامل التي يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور هي:1 - حالة التذبذب والتناقض التي تسود التوجهات العامة للدولة، فتارة تنحاز إلى جذور هويتها ولإرثها الفكري والثقافي، فتتبناه في مناهجها التعليمية وبرامجها الإعلامية وتسطره مدوناتها ووثائقها التشريعية، وتارة تتجرّد الدولة عن ذلك، إذ تنسلخ جزئياً أو كلياً عنه، وتكرس ثقافات مستوردة أو طارئة، تماشياً مع انطباعات شخصية أو تجاذبات سياسية ملحّة في مرحلة من المراحل، وهو ما يعيش فيه المجتمع حالة اغتراب وتناقض متبادل بين الفينَة والأخرى.
2 - حالة الانكسار الثقافي والانهزام الحضاري أمام القدرات الغربية الهائلة الذي يلحق بالدولة، فلا تقوى على التمسُّك بثوابتها ولا حماية هويتها، تحت الضغوط والتأثيرات المباشرة للغرب إمّا انبهاراً وضعفاً أمام الدول الغربية، التي تمارس حضوراً ماسخاً لهويتنا الفكرية والثقافية، أو اندفاعاً واستسلاماً مع الانجذاب للسطوة الثقافية للغرب وترويج وتقليد منظومته الفكرية والثقافية.3 - حالة التجربة والخطأ وتلمُّس مسار ثقافي وفكري للدولة والشعب خارج سياق المسار الطبيعي للجذور الثقافية والفكرية للمجتمع والدولة، اعتقاداً بأن تبنّي مسار لأمم ودول أخرى يوفر استقراراً للنظام، ويحقق طفرة نوعية في التنمية والبناء، ولذا، فإننا في العالم العربي والإسلامي جرّبنا كل أنماط الثقافات والأفكار التي مرّت على الأمم الأخرى، فكان نتيجتها المزيد من التراجعات والضياع والشتات ليس على مستوى الأمة فحسب، بل حتى على مستوى كل دولة منفردة، وهو ما خلق حالة مزمنة من الفراغ الثقافي والفكري. وأمام هذا الوضع الذي غدت عليه حالة الدولة لدينا، فقد نشأت في أعطافها حالات متزايدة من الانسلاخ الفكري والثقافي للأفراد وبعض المجاميع، والتي بدأت تخرج على شكل رِدّة فكرية وثقافية، فهناك أطروحات جريئة ومؤسفة بالتطاول على الذات الإلهية أو الدين أو الرسل من شخصيات تتبوأ مواقع ومسؤوليات مجتمعية مهمة، ويفترض فيها أنها تسهم في بناء ثوابت الدولة والمجتمع، بل هناك ثقافة للتغريب والتنصّل عن الدين والمعلوم منه بالضرورة، وهناك محاولة لخلط المفاهيم الصحيحة للدين ببعض الأطروحات الشاذة لتعجيل هدم مسلّماته الثابتة، بشأن وجوبية الحجاب والترويج بعدم وجود آية في القرآن تنصّ على الحجاب، وهناك مَن يحاول إلغاء السنّة النبوية من مصادر التشريع، رغم التأكيد الصريح عليها بآيات قرآنية، وهناك من يحاول تفصيل الدين بمسلك جماعة أو مجموعة، واعتبار كل حيدة عنها ليست من الدين، وهو في الحقيقة إلغاء صريح لسعة الإسلام وتعدديته، أوَليس اختلاف الأمة وتبايُنها رحمة؟! وهناك تحوّل عن الوحدة العربية والإسلامية، بل وهناك تحريض على إجهاض أي مشروع أو حتى أطروحات وحدوية، وهناك إلحاح وتسابق محموم للتطبيع مع الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين، وهناك من يحاول شطب فلسطين والمسجد الأقصى من عمقيهما العربي والإسلامي، وتحويل الأمر إلى قضية دولة قُطْرِية فقط. هذا ليس كل شيء، بل هذه بعض مظاهر الردّة الفكرية والثقافية التي بدأت تتسلل إلى مجتمعاتنا، في ظل غياب الدولة وأدوارها وإمكاناتها في حفظ هوية مجتمعاتنا، ويروج لكل ذلك أحياناً تحت غطاء علمانية الدولة، وأحياناً تحت شعار الليبرالية السياسية والاجتماعية، وثالثة تحت صيحات تحرير العقل والتخلص من النقل والانفتاح على المجتمعات الغربية، رغم أنها- الأخيرة- تعزز انتماءها الديني، وفي الوقت ذاته تتنكر لعلمانيتها وليبراليتها المزعومة، فهم يرغبون في أن يَرَوْا الانسلاخ عن الهوية الإسلامية والعربية يُزرع في مجتمعاتنا حتى يستمر ضعفنا وتسهُل مهمة السيطرة على دولنا. إن الرِّدّة الفكرية والثقافية، سواء كانت عن خواء أم عن جفاء، تشكّل منحنى مدمراً لأمتنا ومجتمعاتنا تقع مسؤولية التصدي له على عاتق الدولة لدينا، وهي بكل أسف غائبة.
أخر كلام
الرِّدّة الفكرية والثقافية... خواء أم جفاء؟
23-09-2021