يجب أن يُحاسَب القادة على أفعالهم لضمان تطبيق حُكم القانون، ففي ما يخص أداء الجيش، تشتق المحاسبة من السيطرة المدنية على القوات المسلحة، فهذه هو المبدأ الأساسي الذي يحكم العلاقات المدنية العسكرية، وهو عامل محوري بالنسبة إلى ديموقراطيتنا ومجتمعنا السلمي، لكنّ الجنرال مارك أ. ميلي دمّر هذا المبدأ.

كان ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، يعبّر في مناسبات متكررة عن مخاوف عميقة ومبررة من الرئيس دونالد ترامب الذي يزداد اضطراباً وغرابة، هذا ما يذكره بوب وودوورد وروبرت كوستا من صحيفة "واشنطن بوست" في كتابهما Peril (الخطر)، وكارول ليونيغ وفيل راكر من صحيفة "ذا بوست" في كتابهما I Alone Can Fix It (أنا وحدي أستطيع إصلاح الوضع)، وسوزان غلاسر من صحيفة "نيو يوركر"، وفي تلك اللحظات، حاول ميلي التواصل مع موظفي البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي للتشاور مع الرئيس وعكس المسار المعتمد، فكانت هذه الخطوة منطقية ومشابهة لأسلوبي في التكلم عن إساءة استعمال السلطة التي أدت إلى أولى محاولات عزل ترامب، لكني ذهبتُ أبعد من ذلك لإتمام واجباتي، فأدليتُ بشهادتي علناً أمام الكونغرس وتكلمتُ عن مكالمة هاتفية بين ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، حيث شجّعه ترامب على إجراء تحقيق عن خصمه السياسي جو بايدن.

Ad

لكن تكشف التقارير اليوم، بعد أشهر على زوال الخطر، أن الخطوات التي اتخذها ميلي بعد فشله في تحقيق النتائج المنشودة عبر استعمال القنوات الاعتيادية كانت أكثر إثارة للجدل، فقد كان ميلي يخشى أن تكون الأزمة التي تلت الانتخابات الرئاسية مشابهة لحريق الرايخستاغ في ألمانيا النازية بالنسبة إلى ترامب، فيستعمل الرئيس الجيش لمنع نقل السلطة بطريقة سلمية أو يدفع الولايات المتحدة نحو خوض الحرب، ولهذا السبب، عبّر ميلي عن مخاوفه من خطورة ترامب أمام مرؤوسيه العسكريين، فأوضح أن أي أوامر من ترامب لاستعمال القوة النووية يجب أن تمرّ به أولاً، وإذا أكد ميلي هذه المعلومات أثناء الإدلاء بشهادته أمام الكونغرس في 28 سبتمبر، لا يمكن استرجاع التوازن الأساسي في العلاقات المدنية العسكرية إلا من خلال خطوتَين: استقالة ميلي، أو إقدام الرئيس جو بايدن على إعفائه من واجباته كرئيس هيئة الأركان المشتركة.

ما الخيارات التي كانت متاحة أمام ميلي خلال الظروف الشائكة التي واجهها بعد الساعات والأيام التي حاول فيها ترامب سرقة الانتخابات والتحريض على إطلاق حركة تمرد للانقلاب على انتصار بايدن الشرعي؟ تبرز في هذا المجال سابقة حديثة وممتازة، ففي بداية عام 2019، استقال الجنرال المتقاعد جيم ماتيس من منصبه كوزير للدفاع احتجاجاً على قرار ترامب الشائب بسحب جميع القوات العسكرية من سورية بطريقة متسرعة وخطيرة والتخلي عن حلفائنا الأكراد، وأدت استقالة ماتيس إلى ردة فعل هائلة، فدفعت ترامب إلى عكس قراره. باختصار، وضع ماتيس قناعاته ومصالح الأمن القومي الأميركي قبل منصبه.

لنتخيل ما كان سيحصل لو أقدم ميلي على الخطوة نفسها في 7 يناير الماضي، بعد يومٍ على اقتحام مناصري ترامب مبنى الكابيتول، كيف كان هذا القرار سيكبح الرئيس ويؤثر على محاولة عزله الثانية بعد أعمال الشغب؟ كانت الاستقالة التي تترافق مع رسالة مشابهة لتلك التي وجّهها ماتيس ستسلّط الضوء على جدّية الوضع داخل البيت الأبيض. كذلك، كان ميلي يستطيع التعبير عن مخاوفه علناً وينضم إلى كبار القادة الآخرين، بمن في ذلك مسؤولون في الحكومة قرروا التنحي بعد 6 يناير، وكان هذا التوجه سيصبح خطوة استباقية ضد أي ممارسات أخرى تنمّ عن إساءة استعمال السلطة.

لكن تفيد التقارير بأن ميلي اتخذ موقفاً صاخباً أمام مرؤوسيه وعبّر عن مخاوف كبرى أمام رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، حتى أنه حاول خلال الفترة نفسها التحايل على سلسلة القيادة أو تخريبها أحياناً.

تشمل هيئة الأركان المشتركة أكثر من ستة ضباط عسكريين برتبة أربع نجوم، ويكون كل واحد منهم قد خدم بلده بطريقة مشرّفة وبكل تفانٍ طوال عقود دفاعاً عن الدستور الأميركي ضد جميع الأعداء، محلياً وخارجياً. أشعر بالدهشة لأن ميلي وحده كان يقف بين رجل مجنون ونهاية كارثية بمعنى الكلمة. إنها حبكة مشابهة لما نشاهده في أفلام هوليوود الشهيرة، لكن لا يمكن إدارة الجيش الأميركي بهذه الطريقة، فقد كان أي شخص من بين رؤساء الأركان الآخرين أو نائب الرئيس سيتنحى ويتابع تطبيق واجباته لحماية البلد، وكانت استقالة ميلي ستُنبّه الناس وتمنع ترامب من استعمال الجيش لإطالة مدة عهده الرئاسي، وكان نائب رئيس هيئة الأركان سيصبح الرئيس الجديد تلقائياً إلى أن يتمكن مجلس الشيوخ من تعيين بديل عنه.

لم يقرر ميلي الاستقالة احتجاجاً على الأحداث المتلاحقة في آخر أيام عهد ترامب، علماً أن هذه الخطوة كانت ستُعتبر الأكثر تأثيراً في ظروف مماثلة لتسليط الضوء على مخاوفه، وكان الجنرالات الآخرون سيتمكنون حينها من ضبط الوضع بالشكل المناسب، لكن الرأي العام اطّلع على مخاوفه بعد مرور أشهر عدة، ولم يتحرك رئيس هيئة الأركان المشتركة حين كان يستطيع إحداث فرق حقيقي، إنه مؤشر بالغ الأهمية.

لطالما حرص موظفو الخدمة العامة على حماية المواطنين من تداعيات سوء استعمال السلطة من جانب لاعبين سياسيين يخدمون مصالحهم الخاصة، لقد كانوا الجهة المرجعية في عهد ترامب وشهدوا على فساد الرئيس، ربما تضررت المعايير المؤسسية وانهار النظام الفاعل، لكن حافظت المؤسسات بحد ذاتها على تماسكها، ومن الواضح أن المسائل التي عجز ترامب عن فعلها خلال أربع سنوات لتخريب عمل الحكومة ما كانت لتصبح سهلة التنفيذ في الأيام الأخيرة من عهده، حيث يُعتبر فشل التمرد والعجز عن الانقلاب على نتائج الانتخابات خير مثال على ذلك، ومن الخطير أن نصدّق أن أي فرد في النظام لا غنى عنه، لكن عددا كبيرا من قادتنا يحملون هذه الفكرة عن أنفسهم.

أصبح ميلي في عين العاصفة في مناسبات متعددة خلال ولايته، ويمكن اعتباره الجنرال الأكثر إثارة للجدل منذ دوغلاس ماكارثر الذي أُعفي من واجباته بعد إقدامه على تخريب سلسلة القيادة واصطدامه العلني مع الرئيس هاري ترومان بسبب السياسة الخارجية الأميركية في كوريا، وقد تجوّل ترامب مع ميلي في أنحاء ساحة "لافاييت" أمام البيت الأبيض غداة حملة القمع العنيفة التي استهدفت الاحتجاجات السلمية بعد مقتل جورج فلويد، ثم اعتذر ميلي لاحقاً على سوء أحكامه لأنه بدا كأداة بيد الرئيس، واتّهمه معسكر اليسار بالتباطؤ في الرد على أعمال الشغب في 6 يناير، واعتبره معسكر اليمين متمرداً، لكن اتّهمه الطرفان معاً بإضعاف السيطرة المدنية على الجيش، فقد بدأ مؤيدوه ومنتقدوه معاً يعتبرونه لاعباً سياسياً، وهذه السمعة كفيلة بالإساءة إلى أي مؤسسة محترمة تحمل قيماً غير مسيّسة، كما أنها تُضعِف مصداقية الجيش حين تصبح التهديدات المطروحة على الأمن القومي حقيقية.

في السنوات الأخيرة، استسلم عدد كبير من القادة للأخلاقيات الظرفية وأغفل الرأي العام عن ميل الناس إلى اعتبار هؤلاء القادة جزءاً من جماعتهم، يجب أن تترافق الأخطاء مع عواقب واضحة، حتى لو كانت تنجم عن أسباب وجيهة، فقد قرر جزء كبير من فريق ترامب (أنا واحد منهم) الاستقالة أو طُرِدوا من مناصبهم لأنهم اتخذوا قرارات صائبة ونفذوها بالشكل الصحيح. ربما ارتكب ميلي الأخطاء لأسباب وجيهة، لكن لا يستحق رئيس هيئة الأركان المشتركة مراعاةً مضاعفة لأنه أخطأ في خياراته، بل إنه يستحق تدقيقاً إضافياً، وفي هذا السياق، كتب صديقي والمسؤول السابق في البنتاغون، جون غانز، التغريدة التالية: "يمكننا أن نكسر القواعد لتحقيق المصلحة العامة، لكن غالباً ما يترافق هذا النهج مع ثمن معيّن، ولا يمكن أن تصمد المعايير المعمول بها في المراحل اللاحقة إلا عبر دفع ذلك الثمن".

إذا أردنا أن تكون مؤسساتنا حصننا المنيع بدل الاتكال على جهود دائمة من منقذين فرديين، يجب أن نحاسب قادتنا، فقد كتب هاري ترومان في مذكراته في عام 1956: "لو أردنا اختيار عنصر أساسي واحد من دستورنا، فيجب أن يتعلق بالسيطرة المدنية على الجيش، ويجب أن يُحدد المسؤولون السياسيون المُنتخَبون السياسات،

لا الجنرالات أو الأميرالات". لهذا السبب قرر ترومان إعفاء ماكارثر من واجباته، وحتى الآن، عبّر بايدن عن ثقته بمارك ميلي، لكن تحتل السوابق دوراً أساسياً في هذا المجال، فلا أهمية للحق إلا إذا ترافقت قرارات الجميع مع عواقب معينة.