ستترك المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عندما تغادر الحياة السياسية في 26 سبتمبر الجاري بعد مسيرة حافلة استمرت 16 عاماً، إرثاً ثقيلاً لم يسبقها إليه رئيس حكومة ألمانية آخر سوى المستشار الألماني الراحل ومكتشفها هيلموت كول، الذي قاد البلاد بين عامي 1982 و1998.وفور مغادرة ميركل المعترك السياسي، سيبدأ مؤيدوها ومعارضوها إما بالاتفاق على هذا الإرث الذي استمر 16 عاماً أو بالاختلاف عليه، ولكنهم سيجمعون على شيء واحد هو أن هذه السيدة التي تنتمي لحزب محافظ ستدخل قاموس الزعماء الأوروبيين "كمستشارة للأزمات" كما يصفها المؤيدون والخصوم على حد سواء.
وقامت ميركل أمس بزيارة مفاجئة لدائرتها الانتخابية في مدينة غرايفسفالد شمال شرق البلاد. وخلال جولتها في سوق أسبوعي بالمدينة، قالت ميركل لبائعة ورد:" أردت أن أقول الوداع مرة أخرى".ويفتح رحيل المستشارة التي تحكم منذ عام 2005، حقبة سياسية جديدة في ألمانيا. فهذه المرة الأولى منذ عام 1949 التي لا يترشح فيها المستشار إلى الانتخابات التشريعية.وتتركز أنظار الدول الأوروبية المجاورة لألمانيا على هذا الاستحقاق الانتخابي، إذ إن تأثير برلين على سير شؤون الاتحاد الأوروبي يُعتبر أمراً حاسماً.
غموض
أي أكثرية ستخلف الائتلاف الوسطي بين المحافظين "المسيحيين الديموقراطيين" في "الاتحاد الديموقراطي المسيحي" CDU و"الاتحاد الاجتماعي المسيحي" CSU من جهة و"الحزب الاشتراكي الديموقراطي" SPD من جهة أخرى؟ لم يكن يوماً الغموض مسيطراً إلى هذه الدرجة في هذا البلد الذي كان معتاداً حتى مؤخراً على الثنائية الحزبية.وأدى الاهتمام المتزايد بقضايا المناخ إضافة إلى تبنّي قسم من السكان موقفاً متطرفاً بشأن سياسة الهجرة، إلى صعود حزبين آخرين هما "الخضر" وحزب "البديل من أجل ألمانيا" AFD اليميني المتطرف.وكانت النتيجة تراجع شعبية الحزبين الكبيرين لاسيما "الديموقراطي المسيحي".ويتصدّر "الاشتراكي الديموقراطي" نوايا التصويت في استطلاع للرأي نُشر أمس الأول، بحصوله على 25 في المئة من الأصوات مقابل 22 في المئة لـ"لاتحاد الديموقراطي المسيحي" و15 في المئة لحزب "الخضر" و11 في المئة لحزب "البديل من أجل ألمانيا".وأمس، أظهر استطلاع حديث للرأي أجرته مؤسسة "يوغوف"، أن 74 في المئة من الناخبين الذين يحق لهم التصويت يقولون إنهم اتخذوا قرارهم بالفعل بشأن الحزب الذي سيختارونه.وفيما يتعلق بالحزب الذي سيصوت له من شملهم الاستطلاع، احتل SPD المرتبة الأولى بنسبة 25 في المئة، يليه CDU وCSU بنسبة 21 في المئة، وجاء "الخضر" في المرتبة الثالثة بنسبة 14 في المئة، بينما حصل AFD على 12 في المئة، و"حزب الديموقراطيين الأحرار" FDP المؤيد لقطاع الأعمال على 11 في المئة، وحزب "دي لينكه" اليساري المتطرف على 7 في المئة.ويوضح المحلل السياسي كارل رودولف كورتي، أن "استطلاعات الرأي لا تُظهر فائزاً واضحاً، إذا أخذنا في الاعتبار هامش الخطأ، فهناك في النهاية 3 أحزاب نتائجها متقاربة جداً".وقد توجّه هذه الانتخابات ضربة قاسية للمحافظين (حزب ميركل) الذين لطالما كانوا يحصلون على أكثر من 30 في المئة من الأصوات أثناء الانتخابات التشريعية.لاشيت وشولتز وبيربوك
ويواجه زعيم المحافظين أرمين لاشيت، الذي لا يحظى بشعبية كبيرة، صعوبات في السير على خطى المستشارة.وعلى صعيد آخر، يجد لاشيت الذي يترأس منذ عام 2017 حكومة ولاية شمال الراين فستفاليا، المنطقة الأكثر تعداداً للسكان في ألمانيا، صعوبة في إقناع الناخبين حتى في معسكره.في المقابل، يحالف الحظّ "الحزب الاشتراكي الديموقراطي". فبعد أن تكبّد انتكاسات انتخابية عدة في السنوات الأخيرة، نجح الحزب في عكس الاتجاه منذ مطلع العام وتنصيب أولاف شولتز مرشحه البالغ 63 عاماً، نائباً للمستشارة ووزير مالية.ويُتوقع أن يلعب "حزب الخضر" بقيادة أنالينا بيربوك (40 عاماً) دوراً رئيسياً في الحكومة المقبلة، رغم أن حلوله في المرتبة الثالثة في نوايا التصويت يشكل خبية أمل بالنسبة لأنصاره.لم تخفِ بيربوك أنها تفضّل ائتلافاً مع "الاشتراكيين الديموقراطيين"، لكن حزبها لا يستبعد العمل مع المحافظين، كما سبق أن فعل في بعض المناطق الألمانية.قد تكون خيارات التحالفات كثيرة جداً وقد تستمرّ المفاوضات لأشهر ستتولى خلالها ميركل ووزراؤها مهام تصريف الأعمال.قادت المستشارة ألمانيا بمهارة خلال الأزمات التي شهدتها ولاياتها الأربع، من أزمة اليورو إلى وباء "كورونا"، مروراً بتدفق اللاجئين السوريين والعراقيين عام 2015.لكن عدد الملفات المطروحة على جدول أعمال الحكومة المقبلة كثيرة، ومنها التأخر الرقمي الذي تعاني منه الإدارة والشركات، الانتقال البيئي، شيخوخة السكان، التفاوتات وتحديد السياسة المتبعة حيال الصين وروسيا.وعام 2017، استغرق الأمر خمسة أشهر لتشكل ألمانيا ائتلافاً وتبدأ الحكومة الجديدة العمل.الاتحاد الأوروبي
إضافة إلى ذلك، يثير انسحاب ميركل من المشهد السياسي الخوف من حدوث فراغ داخل الاتحاد الأوروبي، في مواجهة مشاريع حاسمة لاستمراريته، لكن أيضاً يعطي أملاً بالتجديد.واضطلعت ميركل، رئيسة الحكومة التي بقيت في السلطة لأطول فترة بين الديموقراطيات الأوروبية، بدور حاسم في الاتحاد الأوروبي، كما أعلن خبير الشؤون السياسية يانيس إيمانويليديس من مركز السياسة الأوروبية.فخلال 16 عاماً في السلطة، كان على ميركل التعامل مع "أزمة دائمة" في الاتحاد الأوروبي، من الأزمة المالية عام 2008 إلى جائحة "كورونا"، بما في ذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما ذكر إيمانويليديس.وفي الأشهر الأخيرة، ضاعف قادة الاتحاد الأوروبي مبادرات التكريم والشكر للمرأة التي قادت ألمانيا منذ 2005. وأشاد رئيس الوزراء الهولندي مارك روته بـ"سلطتها الكبيرة"، وقال: "بالطبع رحيلها سيترك فراغاً"، متحدّثاً عن "نهاية حقبة". وأظهرت ميركل "استمرارية وحزماً"، وهو ما ثمنه العديد من الأوروبيين في أوقات عدم اليقين. وقال روته "سيتعين على المستشار المقبل أن يكتسب مكانة أولاً قبل أن يكون قادراً أن يحل مكانها في هذا الدور". لا يهم إذا كان اسمه لاشيت أو شولتس أو بربوك (الخضر).وأشارت رئيسة المفوضية الأوروبية اورسولا فون دير لايين إلى أي درجة كانت قدرات ميركل التحليلية حاسمة لتحريك المفاوضات الأوروبية الطويلة أحياناً.لكن في المقابل هناك من ينتقد ميركل وبرلين. وقال رئيس المفوضية السابق جان كلود يونكر "ميركل لم تنقذ أوروبا"، مضيفاً أن "الجانب الألماني هو الذي يزعم أنها وجدت حلولاً للأزمات الخطيرة".رغم أنه يؤكد أن ميركل تصرفت كـ"امرأة دولة" عندما فتحت الحدود الألمانية أمام اللاجئين في 2015 رغم الهجمات التي وقعت في بلادها و"تصرفت بشكل مناسب" خلال الجائحة من خلال الموافقة على خطة إنقاذ تاريخية بقيمة 750 مليار يورو جسدت التضامن الأوروبي.وانتقدت وزيرة الخارجية الإسبانية السابقة آنا بالاسيو المستشارة "لاستراتيجيتها التي تنتظر مواقف يائسة للمطالبة بإجراءات يائسة". وأكدت أن هذه الاستراتيجية "أفادت في كثير من الأحيان أولئك الذين يخالفون القواعد"، في إشارة إلى المماطلة الألمانية حيال رئيس الحكومة المجري فيكتور أوربان، الذي ابتعدت بلاده عن القيم الأوروبية.ومع ذلك، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديات تاريخية: إعادة بناء اقتصاد قوي بعد الوباء ومكافحة تغير المناخ وتأكيد دوره الجيوسياسي في مواجهة الولايات المتحدة والصين.