فرنسا: لم يعد بإمكان أوروبا الاعتماد على واشنطن لحمايتها
باريس تعدّ «فاتورة مفصلة» لكانبيرا... و«أزمة الغواصات» تهدد تماسك «الثلاثي الغربي» في مجلس الأمن
رغم المكالمة التي جرت بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والفرنسي إيمانويل ماكرون، أمس الأول، والتي وصفها البيت الأبيض بالودية، وأعلنت باريس على أثرها أنها ستعيد سفيرها الى واشنطن، لا يبدو أن "أزمة الغواصات"، التي اندلعت بعد تخلّي أستراليا عن صفقة كبيرة مع باريس لمصلحة واشنطن ولندن بموجب الإعلان عن تحالف أنكلو ساكسوني ثلاثي في منطقة المحيطين الهادئي والهندي أطلق عليه "أوكوس"، قد انتهت.
الدرس الأول
وقال وزير الاقتصاد الفرنسي، برونو لومير، أمس، إن "الدرس الأول الذي نتعلّمه من هذه الحلقة هو أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يبني استقلاله الاستراتيجي. الحلقة الأفغانية وحلقة الغواصات، تُظهران أنه لم يعد بإمكاننا الاعتماد على الولايات المتحدة الأميركية لضمان حمايتنا الاستراتيجية".وأضاف لومير: "لدى الولايات المتحدة اهتمام استراتيجي واحد فقط، الصين، واحتواء صعود قوتها". وأشار إلى أن الرئيسين السابق دونالد ترامب والحالي جو بايدن "يعتقدان أن حلفاءهما (...) يجب أن يكونا طيّعين. نحن نعتقد أننا يجب أن نكون مستقلين".وتابع: "يجب على شركائنا الأوروبيين أن يفتحوا أعينهم"، منتقدا دعم الدنمارك للولايات المتحدة، الذي يتعارض مع الانتقادات التي وجّهتها السلطات الأوروبية بعد القرار الأسترالي بفسخ العقد الموقّع مع مجموعة نافال الفرنسية.وأشار إلى أن "التفكير مثل رئيسة الوزراء الدنماركية أن الولايات المتحدة ستستمر في حمايتنا والدفاع عنّا، مهما حدث، خطأ. لم يعد بإمكاننا الاعتماد إلا على أنفسنا".
صناعتنا الدفاعية بخير
من ناحيته، شدد الناطق باسم الحكومة الفرنسية، غابريال أتال، على أن بلاده "ليست قلقة" بشأن صناعتها الدفاعية بعد الخطوة الأسترالية، معتبراً أن ما جرى ليس مجرد "أزمة تجارية وصناعية بقدر ما هي أزمة سياسية واستراتيجية".ورداً على سؤال عمّا إذا كان بإمكان الهند شراء الغواصات التي لن تسلّم لكانبيرا، قال أتال: "منذ بداية عهد ماكرون، بعنا 88 طائرة رافال، وتلقينا طلبيات إضافية بقيمة 30 مليارا، وسلّمنا معدات بقيمة 30 مليارا، وغواصاتنا هي سفن رائدة معترف بها دوليا، ستحصل عليها عدد من الدول وقد تشتريها دول أخرى".الفاتورة آتية
من ناحيته، أعلن رئيس مجلس إدارة "نافال غروب" الصناعية الفرنسية بيار إريك بومليه، أن المجموعة سترسل "بعد بضعة أسابيع" لأستراليا "عرضاً مفصلاً بالأرقام" لـ "الكلفة التي تكبّدتها والكلفة المقبلة" بعد فسخ عقد الغواصات.وشرح بومليه أن "أستراليا فسخت العقد لأن هذا يلائمها، مما يعني من جهة أخرى أننا لم نرتكب خطأ"، وتابع: "هذه من الحالات التي نص عليها العقد، وسيترتب عنها دفع التكاليف التي تكبدناها والتكاليف المقبلة على ارتباط بـالتفكيك الفعلي للبنى التحتية والمعلوماتية وإعادة نشر الموظفين... سوف نطالب بكامل حقوقنا".وبلغت قيمة العقد الإجمالية 50 مليار دولار أسترالي (31 مليار يورو) عند توقيعه، وهو ما يوازي 90 مليار دولار بعد الأخذ بالتضخم على طول مدة البرنامج، مع تخطّي حدّ التكاليف. وكان هذا أضخم عقد حول معدات دفاعية، سواء بالنسبة لأي مجموعة صناعية فرنسية أو لأستراليا، ووصفته فرنسا بأنه "عقد القرن".اختلال مجلس الأمن
من ناحية أخرى، تهدد أزمة الغواصات بزيادة "الاختلال" في العلاقات الدولية وداخل مجلس الأمن.ويوضح برتران بادي، خبير العلاقات الدولية بمعهد العلوم السياسية في باريس أن "أزمة الغواصات هذه تهزّ المجموعة الثلاثية"، التي تضم الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة، معتبراً أنها "أزمة حادة تتعلق بالمفهوم التقليدي للتحالف المنبثق عن الحرب الباردة والذي لا يزال على حاله تقريباً". وتوقّع أن "تتفاقم هذه الخلافات مستقبلا، في دليل على وجوب تخطي هذا المفهوم القديم للأمن الدولي".وتضاعف المجموعة الثلاثية في مجلس الأمن المناقشات حول كل الملفات قبل طرحها للبحث، ويعتبر دورها أساسيا لإبداء جبهة موحدة لاحقا في سياق المفاوضات بمواجهة روسيا والصين، قبل السعي إلى ضم الدول العشر غير الدائمة العضوية إلى موقفها.وقوّض الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب هذا التحالف الثلاثي، لكنّ باريس ولندن كافحتا خلال ولايته ورغم بريكست، لإبقاء واشنطن بجانبهما في معظم الملفات.في المقابل، يلفت ري ريتشارد غوان اختصاصي الأمم المتحدة في مجموعة الأزمات الدولية إلى أن "العلاقات داخل المجموعة الثلاثية لطالما كانت معقّدة"، مضيفاً: "لا أعتقد أن الغواصات ستغرق المجموعة".وينقسم الخبراء حول ما إذا كانت بكين وموسكو ستغتنمان الانقسامات الغربية لمحاولة ضم فرنسا إلى صفّهما.ويرى غوان أنه "ليس هناك بكل بساطة ما يكفي من المصالح المشتركة بين القوى الثلاث. فرنسا عالقة مع الأنكلو-ساكسونيين، حتى لو أنها علاقة معقّدة".من جهته، لفت برتران بادي إلى أن "روسيا والصين تتبعان منذ بعض الوقت دبلوماسية التقاط ما أمكن، مستندتين إلى اتفاقات ظرفية أكثر منها إلى الالتزامات الثابتة الناتجة عن دبلوماسية محاور"، متوقعا أن "تحصل بالطبع محاولات اصطياد دبلوماسي باتجاه فرنسا".وقد تعمد فرنسا المعزولة بين المعسكرين الأميركي - البريطاني من جهة والروسي - الصيني من جهة أخرى، إلى التوجه للأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن بحثا عن دعم في الملفات الحساسة. وبين هؤلاء الأعضاء حاليا الهند التي تحاول فرنسا منذ وقت طويل تطوير شراكة استراتيجية معها.