زيادة الرسوم على تجديد إقامة كبار السن من المقيمين، والتي يتردد صداها الآن، ربما أعياك البحث في معرفة كيف نبتت، لأن الفكرة لا أساس لها تستدل به عليها في تاريخ هذه الأمة، وهو تاريخ عقلها في نشوئه وارتقائه، ودينها وما داخله من آراء ومذاهب، وثقافتها العامة التي من ثوابتها الأساسية توقير كبار السن ورعايتهم، والذي خرج من نبع هذه الثقافة، الدستور كوثيقة تقدمية لحقوق الإنسان وقوانين الرعاية الاجتماعية للمسنين.لذلك لم أتردد في التصدي لزيادة الرسوم على كبار السن، عندما طلب مني ذلك الصديق العزيز المهندس أسامة عبدالخالق، خاصة وقد تتعرض الكويت بسبب تقرير هذه الزيادة لانتقاد المنظمة الدولية للعمل ومنظمات حقوق الإنسان، وما زال قلبي ينبض بحبها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن حاجة كبار السن إلى رعاية صحية أكثر من حاجة صغار السن التي يروج لها البعض لزيادة الرسوم عليهم، تقتضي التخفيف من أعبائهم التي يتحملونها، بإعفائهم من هذه الرسوم، لا العكس أو منحهم إقامة دائمة، كما تفعل بعض الدول، بل تفعل أكثر من هذا بمنح الجنسية لمن أفنى حياته في خدمتها.
وهو ما يستوجب رفض زيادة الرسوم على كبار السن، فضلاً عما يوقع تقريرها في أكثر من مأزق دستوري نطرحه في هذا المقال:المأزق الدستوري الأول إهدار الحقوق المكتسبة لكبار السن المشمولين بالتأمين الصحي، وذلك فيما تنطوي عليه زيادة الرسوم المفروضة عليهم عند تجديد الإقامة، من مصادرة عامة للأموال التي أدوها خلال فترة صباهم في التأمين الصحي، وقت أن كانت الصحة موفورة والحاجة إلى الخدمات الصحية محدودة.حيث يعتبر التأمين الصحي وقد توليه الدولة تأمينا اجتماعيا، يقوم على تكافل المشمولين به، لتغطية الخطر الذي قد يتعرض له أحدهم عند إصابته بمرض ولو عند الكبر، فيتضامن الجميع في تحمله، بدعم الدولة له التي اضطلعت بأعبائه وفقا لأحكام القانون سالف الذكر، وإعمالا لأحكام المادة (15) من الدستور التي نصت على التزام الدولة بالعناية الصحية العامة وبوسائل الوقاية والعلاج من الأمراض والأوبئة.وقد قضت المحكمة الدستورية في مصر بأن مظلة التأمين الاجتماعي هي التي تكفل بمداها واقعا أفضل يؤمن المواطن في غده وينهض بموجبات التضامن الاجتماعي، التي يقوم عليها المجتمع وفقا للدستور (الحكم الصادر بجلسة 14/ 1/ 1995) الطعن رقم 8 لسنة 15 القضائية وجلسة 13/ 3/ 2005)، فضلا عن أن أموال التأمين الصحي هي أموال خاصة مملوكة للمشمولين بهذا التأمين، ومصونة ملكيتها بموجب المادة (18) من الدستور.وقد قضت المحكمة الدستورية العليا بأن النصوص الدستورية التي تصون الملكية الخاصة وتحظر مصادرة الأموال تنطبق على كل حق ذي قيمة مالية (الحكم الصادر بجلسة 2 يناير 1999 الطعن 43 لسنة 17 قضائية. والحكم الصادر في الطعن رقم 108 لسنة 18 قضائية).المأزق الدستوري الثاني الإخلال بالمساواة بين المقيمين، في تجديد إقاماتهم من ناحية الأعباء المالية المفروضة عليهم لتجديدها، بما ينطوي على مخالفة لأحكام المادة (29) من الدستور فيما تنص عليه من أن: "الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين".وفي تقرير المذكرة التفسيرية للدستور في تفسيرها لهذا النص بأن "هذه المادة نصت على مبدأ المساواة والواجبات بصفة عامة، ثم خصت بالذكر أهم تطبيقات هذا المبدأ"، ولذلك فإنه لا يجوز قصر التمييز المهني عنه على هذه التطبيقات بل ينطبق هذا النهي وهذا الحظر على زيادة الأعباء المالية على كبار السن عند تجديد إقامتهم، بزيادة رسوم الإقامة أو رسوم التأمين عليهم، بل على النقيض من ذلك، فإن تخفيف الأعباء المالية المفروضة عليهم يكون تمييزا مشروعاً ومستحباً.وهو ما دعا الرعيل الأول إلى النص في الدستور في المادة (11) على التزام الدول بأن تكفل المعونة للمواطنين في حالة الشيخوخة، وما دعا المشرع الى اصدار قوانين رعاية المسنين والتي كان آخرها القانون رقم 18 لسنة 2016، والتي كشفت المذكرة الإيضاحية لهذا القانون عن الأسس التي يقوم عليها فيما يلي:- أن الحكمة والخبرة التي يملكونها من خلال العمل الطويل تشكل ثقلا ودورا لا بد أن يعتد به.- أن تقدير الآخرين لهم وتعاطفهم معهم ينمو بهما الأمل في البقاء والحياة في المجتمع، ويتوفر لهم الرضا والاستقرار.- توفير المناخ الصحي والنفسي والاجتماعي للمسنين لمواصلة نشاطهم ودورهم في الحياة الكريمة والآمنة.وقد حدد القضاء الدستوري الكويت المقصود من مبدأ المساواة أمام القانون، بأن "يكون الجميع سواء لا تفرقه بينهم أو تمييز، فالحقوق والمزايا التي يمنحها القانون، وينعم بها المخاطبون بأحكامه يستظلون منها وفق قواعد موحدة، وتحظى من القانون بحماية واحدة، وبدرجة مستاوية من الواجبات والالتزامات التي يفرضها القانون عليهم ويخضع لها الجميع على السواء، بلا تفرقه بينهم أو تمييز لأحدهم على الآخر". (جلسة 28/ 5/ 2008) الدعوى رقم 5 لسنة 2008 دستوري).وقد حذر أيضا من سن نص تشريعي يقيم تمييزا غير مبرر مناقضا بذلك مبدأ المساواة الذي يكفل المعاملة القانونية المكافئة لأصحاب المراكز القانونية المتماثلة. (جلسة 10/ 12/ 2007 الدعوى رقم 7 لسنة 2007 دستوري- جلسة 28/ 4/ 2001 الدعوى رقم 6 لسنة 2001).وهي رسالة قوية هامة الى المشرع، فيما يسنه من قوانين بوضع قواعد موحدة تسري على جميع المخاطبين بأحكامه، وبدرجة متساوية، وبلا تمييز بينهم، سواء في الحقوق التي يستمدونها من القانون أو في الواجبات التي يفرضها عليهم.المأزق الدستوري الثالثوهو مخالفة المادة الثانية من الدستور فيما نصت عليه من أن "دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع"، وفي تفسير المذكرة الدستورية لهذا النص تقرر: "أن وضع النص بهذه الصيغة توجيه للمشرع وجهة إسلامية أساسية". وهي الوجهة الإسلامية التي التزمها المشرع في قانون التأمين الصحي، عندما نص في مادته الأولى على تقديم الخدمات الصحية للأجانب وفقا لأحكامه بما لا يتعارض وأحكام الشريعة الإسلامية.وفي هذا السياق يقول المولى عز وجل: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً".وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا". وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: "خياركم أطولكم أعماراً، وأحسنكم أعمالاً".ويقول، الرسول عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده، لا يضع الله رحمته إلا على رحيم"، فقال أحد المخاطبين بهذا الحديث "كلنا يرحم" فرد عليه الرسول: "ليس برحمة أحدكم صاحبه، بل برحمة الناس"، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. فالمسلم مطالب بإكرام المسن دون النظر إلى عقيدته أو بلده أو لونه، وغني عن البيان أن زيادة الأعباء المالية المفروضة على المقيمين لكبر سنهم قد توقع القرار الصادر به في مأزق شرعي ودستوري.يتبع غداً،،،
مقالات
في ظلال الدستور: المأزق الدستوري في زيادة الرسوم على المقيمين كبار السن (1-2)
26-09-2021