تاريخ الشرق الأوسط رسمت معالمه دوماً المجاري المائية، دجلة والفرات في الشرق، والنيل في الغرب، ونهر الأردن وبحيرة طبرية في الوسط. لقد تغذت عشرات الحضارات ومئات الملايين من الأرواح على هذه المياه، ولطالما اعتُبر استمرار تدفق هذه المجاري من المسلمات، لكن الأمر لم يعد كذلك الآن، فقد أثر تغير المناخ والمبادرات الأحادية الجانب من بعض دول الإقليم كثيراً على إمدادات المياه إلى جيران هذه الدول.وعدم الاستجابة لهذه المشكلات سيؤدي إلى نتائج سيئة على حياة مئات الملايين، مما سيتسبب في توترات قد تغذي المزيد من الصراعات، وتسبب ارتفاع الحرارة وتقلص سقوط الأمطار في أسوأ جفاف منذ 900 عام في عدد من الدول العربية، وأدى إلى عواصف رملية تتزايد كثافة مع تأثيرات وصلت إلى شبه الجزيرة العربية، وهناك أدلة كثيرة تشير إلى الجفاف باعتباره من العوامل التي أدت إلى تصاعد الصراع في سورية.
فقد تمخضت سنوات من مستويات خطيرة الانخفاض في سقوط الأمطار، بالإضافة إلى سوء الإدارة الحكومية، عن الإضرار بمئات الآلاف من المزارعين السوريين، مما دفعهم إلى الفرار من بلداتهم، وأدى نزوح هؤلاء السوريين ووجود أكثر من مليون لاجئ عراقي إلى ضغط على الموارد ومهد الساحة لصراع مدني وتطرف، وهذا انفجر في نهاية المطاف في احتجاجات حاشدة. وبخلاف الجفاف، تفاقمت مشكلات سورية المائية بسبب إقامة تركيا سداً على نهر الفرات قلص تدفق المياه إلى سورية بنسبة 40%، وواجه العراق ارتفاعاً في درجات الحرارة وتقلصا في تساقط الأمطار واتساع رقعة التصحر وتأثر أيضاً ببناء تركيا سدين على دجلة والفرات، وتقلص إمداد المياه إلى العراق بنسبة 80% نتيجة لهذا، وأدى هذا إلى تقلص كبير في محصول العراق من التمور وبساتين الموالح وحقول الأرز وأيضاً فقدان نحو 100 ميل مربع من الأرض القابلة للزراعة سنوياً.والمياه الجارية في الأنهار هي المصدر الرئيس لمياه الشرب في العراق، لكنها تضررت بسبب تسرب المياه المالحة من الخليج العربي إلى الأنهار مما جعلها غير آمنة للشرب والري، ومع تخطيط تركيا لبناء 22 سداً آخر على كلا النهرين، سيتفاقم الوضع في دولة المصب أكثر. وبالمثل تواجه مصر والسودان تهديدات نتيجة سد جديد أقامته إثيوبيا يعتبر الأكبر في إفريقيا، والمصريون الذين يعتمدون على النيل في 97% من المياه التي يستهلكونها سيفقدون 20% من المياه نتيجة هذا السد، وسيفقد السودان 50% من إمداداته، والسودان ومصر يواجهان بالفعل مشكلات ندرة المياه وتصحراً وعدد سكان متسارع الزيادة، واقتصاد كلا البلدين يواجه صعوبات وسيواجه كلا البلدين تحديات واضطرابات متصاعدة. إسرائيل حولت مياه بحيرة طبرية لتدعم بها زراعتها وسكانها، وبعد سيطرتها على مرتفعات الجولان، استطاعت إسرائيل استغلال مياه البحيرة ونهر الأردن وآبار المياه الجوفية في الضفة الغربية، وحالياً تستخدم إسرائيل أكثر من 80% من المياه الجوفية في الضفة الغربية، وتحويلها مياه طبرية ونهر الأردن أدى إلى تقلص تاريخي في مياه النهر إلى 5% فقط من حجمه الأصلي. وشح المياه مشكلة حقيقية على حياة البشر وتؤدي إلى تفاقم الفقر والنزوح وتتسبب في احتمال تصاعد الصراعات، لكن المفاوضات قد تؤدي إلى حلول، فعلى مدار عقود سعى العراق وسورية إلى التوصل إلى تسويات مع تركيا، وناشدت مصر والسودان إثيوبيا إطالة المدى الزمني لخطة ملء سد النهضة للسماح بوقت كاف للقيام بعمليات التكيف اللازمة، وفي أوسلو، وافقت إسرائيل على أن الوضع النهائي لقضية المياه لا يتأثر بالتحركات من جانب واحد.على مدار آلاف السنين غذت أنهار دجلة والفرات والنيل والأردن حضارات ازدهرت على ضفافها، وبدلاً من مواصلة التقدم الحضاري، تغذي الآن التصرفات الأحادية لعدد قليل من الدول الصراع وتهدد حياة الآخرين. * رئيس المعهد الأميركي العربي في واشنطن.
مقالات
أزمة مياه الشرق الأوسط
29-09-2021