جاءت اختبارات الأسلحة في الأسبوع الماضي لتكسر فترة هادئة وغير مألوفة على جبهة كوريا الشمالية، ولتُذكّر إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بأن حماسة البلد لتطوير أسلحة نووية تستحق انتباهاً خاصاً من البيت الأبيض في نهاية المطاف.بحلول هذه المرحلة من عهد أي إدارة أميركية جديدة، تعمد كوريا الشمالية في العادة إلى إطلاق عدد من الاختبارات النووية أو الصواريخ البالستية لأن نظام كيم جونغ أون يرغب في اختبار القادة الأميركيين الجدد، لكن لم يواجه الرئيس جو بايدن هذا الوضع قبل الأسبوع الماضي، مع أن الولايات المتحدة شاركت في أحداث تثير استياء كوريا الشمالية في العادة، منها تنظيم قمة مع كوريا الجنوبية وتنفيذ تدريبات عسكرية مشتركة في الأشهر الماضية.
لكنّ الاختبارات الأخيرة ليست المؤشرات الوحيدة التي تثير القلق في الوقت الراهن. يقول رافاييل غروسي، رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إن البرنامج النووي الكوري الشمالي يتقدم بأقصى سرعة، فقد أصبحت وجهة البلد واضحة: تريد كوريا الشمالية أن تُطوّر قوة معاصرة وقادرة على خوض حروب نووية، وتهديد الولايات المتحدة بصواريخ تحمل رؤوساً حربية متعددة وتستطيع الصمود والتصدي للدفاعات الصاروخية الباليستية والرد على أي اعتدءات أميركية استباقية، وإذا حققت كوريا الشمالية هذه الأهداف، فلن يكون عَكْس مسارها النووي ممكناً ولو بالقوة.لهذا السبب، ستضطر إدارة بايدن في نهاية المطاف لاتخاذ قرار حاسم حول كيفية ردع كوريا الشمالية قبل أن تتجاوز هذه العتبة الخطيرة، فثمة خياران محتملان للخروج من هذا المأزق: تستطيع واشنطن أن تنتظر وقوع أزمة أخرى وتجازف باندلاع الحرب كما حصل مع ترامب في عام 2017، أو يمكنها أن تتحرك الآن وتعيد الجهود الدبلوماسية إلى مسارها الطبيعي عن طريق المساعدات الإنسانية التي تشمل اللقاحات الأميركية المضادة لفيروس «كوفيد19» والمساعدات الغذائية، فقد أصبح البلد بأمسّ الحاجة إليهما معاً.
التريّث يناسب الجميع... حتى الآن!
لم يتّضح بعد ما تنوي إدارة بايدن فعله للتعامل مع هذه الأزمة، فلطالما كانت سياستها ضمنية عمداً، مما يعني أنها لا تعطي الأولوية لهذا الملف، ولا تسارع إلى الاستفادة من الاتفاقيات السابقة وابتكار المسار الدبلوماسي المناسب للمراحل المقبلة، حيث يتعلق السبب الأساسي بأعضاء فريق الأمن القومي في إدارة بايدن، فقد اكتسبوا جميعاً خبرة واسعة في هذا الملف خلال عهد باراك أوباما، وهم يشككون باستعداد كوريا الشمالية للتخلي عن أسلحتها النووية وينشغلون في الوقت الراهن بمسائل كثيرة أخرى.لم يُلْقِ أي مسؤول في الإدارة الأميركية حتى الآن خطاباً لتوضيح السياسة المعتمدة، باستثناء السكرتيرة الصحافية في البيت الأبيض، جين بساكي، التي تعهدت بألا يلجأ بايدن إلى تنظيم قمة استعراضية كما فعل ترامب وألا يتحلى بالصبر الاستراتيجي مثل أوباما، وفي المقابل أعلن سونغ كيم، المبعوث الأميركي الخاص إلى كوريا الشمالية، استعداده لمقابلة الكوريين الشماليين «في أي زمان ومكان»، لكن معظم المراقبين في واشنطن يرصدون شيئاً من الحذر، لا الحماسة، من جانب الإدارة الأميركية في ما يخص علاقتها مع بيونغ يانغ، فبعد انتهاء العمليات العسكرية الأميركية في أفغانستان، بدأت وزارة الخارجية تُركّز بالكامل على المهام الدبلوماسية في ذلك البلد، مما يعني أن الوقت لا يسمح لها بإعطاء الأولوية لكوريا الشمالية. بعبارة أخرى، لا يستطيع المسؤولون الخارجيون الزائرون الحصول على وقت طويل لمقابلة كبار المسؤولين في وزارة الخارجية أو مجلس الأمن القومي إلا إذا أرادوا مناقشة موضوع أفغانستان.في المقابل، ينشغل كيم جونغ أون بمشاكله الخاصة، وبسبب الوضع الاقتصادي السيئ (نتيجة الفيضانات، وتدابير الإقفال التام على طول الحدود بين كوريا الشمالية والصين طوال 21 شهراً بعد تفشي وباء كورونا)، اضطرت بيونغ يانغ للتركيز على شؤونها الداخلية، كذلك، لا يهتم النظام بالرد على دعوات الحوار من الحكومة المنتهية ولايتها في كوريا الجنوبية، وفي غضون ذلك، لم تبذل الصين أي جهد لتعزيز المساعي الدبلوماسية، بل إن إصرارها على ربط التعاون في ملف كوريا الشمالية بالتنازلات الأميركية في علاقاتها الثنائية مع بكين يعني أن الصين لن تتخذ أي خطوات لكسر الجمود القائم، فعلى المدى القريب، دفعت هذه العوامل كلها بايدن إلى وضع ملف كوريا الشمالية جانباً.لكن من المتوقع أن تنتهي هذه الفترة الهادئة نسبياً بحلول نهاية السنة، أو ربما قبل ذلك، لأن كيم سيعود إلى أساليبه القديمة على الأرجح، وفي النهاية، يُعتبر أسلوب الإكراه النهج الطبيعي للتفاعل مع العالم الخارجي في كوريا الشمالية، وفي الماضي، كانت الولايات المتحدة تتكل على الدبلوماسية لتخفيف التوتر السائد، لكن الوضع هذه المرة يختلف لأن الاستفزازات قد تتوسع وتزداد خطورة فيما تتجه كوريا الشمالية إلى كسب قدرات نووية كاملة. قد تحصل كوريا الشمالية مثلاً على مركبة عائدة وقابلة للاستهداف بشكلٍ مستقل وتختبرها، وقد تنجح هذه الأداة في التهرّب من أنظمة الدفاع الأميركية. أو ربما يستحوذ البلد على صاروخ باليستي عابر للقارات أو صاروخ باليستي ينطلق من الغواصات. على صعيد آخر، قد يتردد فريق بايدن في منع تصعيد الوضع من دون إحراز تقدّم حقيقي، ولن يردّ هذا الفريق على التحركات الاستفزازية عبر عقد قمة بين رئيسَي الدولتَين أو تقديم عروض شخصية إلى كيم، ولتجنب مسار الدبلوماسية المُخففة، قد تشعر إدارة بايدن بأنها مضطرة للرد بقوة، فتقرر مثلاً منع الانتشار النووي عبر فرض حصار معيّن، لكن كوريا الشمالية لن تتراجع في مطلق الأحوال، مما يعني أنها ستتابع الاختبارات النووية وتدريباتها العسكرية الاستفزازية، وقد تنشأ أزمة مشابهة لتلك التي اندلعت خلال أول سنة من عهد ترامب.فرص ناشئة بفضل أزمة كورونا
يقضي الحل الاعتيادي لهذه المشاكل بفرض عقوبات إضافية على كوريا الشمالية لإجبارها على وقف برامج التسلّح ولو مؤقتاً، وقد يكون هذا الخيار إيجابياً من الناحية السياسية في واشنطن، لكنه غير فاعل على أرض الواقع لأن كوريا الشمالية فرضت على نفسها أسوأ أنواع العقوبات في تاريخها حين قررت إبقاء حدودها مغلقة مع الصين منذ يناير 2020 لمنع انتشار فيروس كورونا، وبما أن العقوبات فقدت أهميتها، تبقى الدبلوماسية الحل الوحيد لكبح التهديدات النووية، لكن لبلوغ هذه المرحلة، تقضي أفضل طريقة باستعمال الجهود الإنسانية التي تساعد كوريا الشمالية في منع انتشار الوباء، تزامناً مع تقليص تداعيات النقص الغذائي الحاد الذي يجتاح البلد، وبفضل بروتوكولات التحقق المناسبة، لن تنتهك المساعدات الإنسانية أياً من العقوبات المفروضة راهناً على كوريا الشمالية بموجب قرارات مجلس الأمن والقانون الأميركي.لا أحد يعرف بعد عدد الإصابات أو الوفيات بسبب فيروس كورونا في كوريا الشمالية، فحتى الآن، لم يسجّل البلد رسمياً أي إصابة ويشكك المسؤولون الأميركيون والكوريون الجنوبيون بهذه المعلومة طبعاً، لكن الشعب في المقابل تأثّر بالتدابير التي اتخذها البلد لتجنب وصول الفيروس، فتراجعت التجارة مع الصين بنسبة وصلت إلى 90% وبدأت أسعار المواد الغذائية ترتفع، لكن سبق أن رفض كيم عرضاً بتلقي ثلاثة ملايين لقاح صيني عبر مبادرة «كوفاكس» المدعومة من الأمم المتحدة لتوزيع اللقاحات إلى الدول الأكثر حاجة إليها، وادّعى كيم أن كوريا الشمالية لا تحتاج إلى اللقاحات بقدر الدول الأكثر تأثّراً بالوباء، لكن التقارير تفيد بأن كوريا الشمالية لا تهتم باللقاحات الصينية لأنها تُشكك بفاعليتها، وحين رفض كيم هذا الصيف عرضاً بتلقي حوالى مليونَي جرعة من لقاحات «أكسفورد– أسترازينيكا» عبر مبادرة «كوفاكس» أيضاً، تعلّق السبب باحتمال ظهور آثار جانبية معينة، فقد يعطي هذا الوضع فرصة للولايات المتحدة لأن لقاحاتها (فايزر – بيونتيك، ومودرنا، وجونسون أند جونسون) تُعتبر الأكثر أماناً وفاعلية.على صعيد آخر، يُعتبر انعدام الأمن الغذائي في كوريا الشمالية فرصة لإطلاق جهود دبلوماسية فاعلة، فقد انعكست تدابير الإقفال التام لمنع العمليات التجارية الحدودية والفيضانات الموسمية الكبرى على المخزون الغذائي في كوريا الشمالية، فوفق تقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، يصل حجم النقص هذه السنة إلى 850 ألف طن، وتذكر تقارير إعلامية أن نظام توزيع الأغذية العام انهار بالكامل، فقد تصل إمدادات الأغذية والأسمدة من كوريا الجنوبية التي تتوق إلى تحسين العلاقات بين الكوريتَين وجعل هذا الإنجاز إرثاً للحكومة الراهنة في آخر سبعة أشهر من عهدها.قد تبدو اللقاحات والمواد الغذائية مجرّد خطوات بسيطة وبعيدة عن جهود نزع الأسلحة النووية، لكن قد تسمح المساعدات الإنسانية بتلبية الحاجات العاجلة للشعب الكوري الشمالي، وتعزيز التضامن مع كوريا الجنوبية، وتخفيض احتمال أن يطلق كيم أي استفزازات مسلّحة كبرى، كذلك، سيسمح أي اتفاق يضمن وصول المساعدات الأميركية بتقليص النفوذ الصيني في بيونغ يانغ. أخيراً، قد يزيد هذا الوضع زخم الجهود الدبلوماسية.إذا لم تكن الولايات المتحدة مستعدة لتقديم هذا النوع من المساعدات، فيمكنها أن تأخذ مجازفة أخرى وتنتظر الاختبار النووي المقبل من جانب كوريا الشمالية، على أمل أن تنقذ الجهود الدبلوماسية التقليدية الوضع، لكن في ظل تصاعد المشاكل التي يتعامل معها بايدن اليوم، آخر ما يريده الرئيس الأميركي هو نشوء أزمة خطيرة أخرى.