يزخر تراثنا العربي بوصايا حسن الجوار، فقد تكررت هذه الوصايا عبر الأجيال حتى شملت الجار السابع، لكن أثر ذلك على أرض الواقع لا يتناسب مع حجم تلك المثاليات والأدبيات سواء على صعيد الأفراد أو على صعيد الدول، فالعلاقات بين العديد من الدول العربية الجارة مثلاً تعاني مشاكل جغرافية وسياسية وصراعا على الثروات وأسبابا أخرى أغلبها يعكس عجزاً عن تفعيل المشتركات والمصالح، كما أن معظم المشاكل بين الأفراد الجيران تحدث بسبب توافه الأمور التي ربما ينطلق معظم أصحابها من شعور النقص ومحاولة تعويضه بالتنمر على الجار لا على أحد غيره، والذي يتحطم سريعاً على صخرة سوء تقدير قوة الجار وخطأ تفسير طيبته وحلمه فتصبح المسألة حالة صدام مستمر، حيث لا يوجد ضعيف في هذا الزمن ولا يوجد قوي (دولاً وأفراداً)، فأسباب القوة لدى المدافع كثيرة وأسباب الضعف لدى المتنمر كثيرة أيضاً، والمعادلة خاضعة غالباً لقدرة الدول والأفراد على الاستفادة من عوامل القوة وعوامل ضعف الخصوم، وأما حكايات الجار الأول والجار السابع فتبقى مجرد حكايات تزين المجالس ولا تعكس واقعاً عربياً حقيقياً.وقد تعودنا، من خلال التجربة، أن جار السوء أقل إضراراً بالجار السابع من الجار الأول بكثير، سواء كانت الجيرة بين أفراد أو دول، وربما يعود ذلك إلى غياب التنافس على الجغرافيا والحيازات الجيوسياسية بين الدول وغياب التنافس على الحيازات الجيواجتماعية بين الأفراد.
فعلى صعيد الدول لعل جار الكويت المقبور صدام حسين خير مثال على التناقض بين الإرث العربي والواقع الفعلي للجوار، فلم يكن للإرث دور في فرض الاحترام أو للمصالح دور في تفعيل المشتركات، في حين أن مفهوم الجيرة غير مطروق بقوة في الإرث الأوروبي، ومع ذلك فإن دولة صغيرة مثل سويسرا حظيت بتقدير جيرانها الكبار واحترامهم لاستقلالها وسلامة أراضيها طوال قرون مضت.والأمر لا يختلف كثيراً على صعيد الأفراد العرب، فغالباً ما يحظى الجار الأول بـقلة أدب جاره أكثر من الجار السابع، في حين أن الجار ما بعد السابع ومن يليه لا يواجهون مشاكل مع جار السوء كما الأقرب فالأقرب، وهو ما لا يحدث بين الجيران في دوسلدورف أو ميلانو أو نيوكاسل كراكوف مثلاً.ورغم أني وطوال السنوات الماضية والحاضرة لم أجاور جار سوء إلا مرة أو مرتين على الأكثر، فإن جار السوء لم يستطع أن يجرني إلى هبوط اضطراري قريب من مستواه، فقد وجدته أضعف من أن يضر وأقل من أن أعامله بالمثل أو أن أضحي بسمعتي لدى بقية الجيران الطيبين من أجل كبح جماح سوئه، خاصةً وأن الإهمال واللامبالاة كافيان ووافيان في مواجهة هؤلاء دون الحاجة للخروج عن الأدب والوقار.ولعل العلاقات بين الدول تبقى محكومة بالجغرافيا التي تفرض واقعاً لا يقبل التغيير، حيث لا تستطيع دولة أن ترحل إلى إقليم آخر فتتخلص من جارتها السيئة، في حين أن الأمر مختلف بين الأفراد، فالذي يبيع بيته بسبب جار السوء هو في حقيقة الأمر لم يبع البيت إنما باع جار السوء واستبدله بجار آخر إن لم يكن خيراً منه فلن يكون أسوأ.
مقالات - اضافات
وجهة نظر: جار السوء بين الموروث والواقع
01-10-2021