في محاولة لترميم الثقة بين فرنسا والولايات المتحدة بعد "أزمة الغواصات"، والطعنة التي تلقتها فرنسا عقب الإعلان عن تحالف "أوكوس" الثلاثي بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، أجرى وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن زيارة الى باريس.

ورغم مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى استقبال بلينكن، في اجتماع لم يكن مدرجاً على جدول الزيارة، فإن الأجواء المتشنجة كانت حاضرة والتصريحات التي خرجت لم توحِ أن اختراقاً كبيراً قد تم، وبأن الأزمة باتت أعمق من أن تعالج بالمهدئات، وربما تحتاج الى جراحة عميقة.

Ad

وقال مسؤول رفيع المستوى في وزارة الخارجية الأميركية إن بلينكن أبلغ ماكرون بأن واشنطن "تدعم بالتأكيد مبادرات الدفاع والأمن الأوروبية"، التي يمكن أن تزيد القدرات، لكنها لا تقوّض حلف ناتو.

وربما كان بلينكن يريد بذلك إيضاح أن "أوكوس" لا يتعارض مع "ناتو"، لكن يبدو أنه نسي أو تناسى تصريحات سابقة عن "الموت الدماغي" للحلف الأطلسي.

وأضاف المسؤول الأميركي "إننا نعتبر ذلك مكملا لحلف شمال الأطلسي. والتزام الرئيس جو بايدن تجاه الحلف، كما تعلمون جميعا، صارم".

وتابع المسؤول في إفادة للصحافيين، أن ماكرون أكد أن فرنسا وافقت على ألا تكون أي مبادرة جديدة في منافسة مع "ناتو".

وقال المسؤول إن هناك "توافقا مشتركا على أن لدينا الآن فرصة لتعميق وتعزيز التعاون، بين البلدين الحليفين، لكن ما زال يتعيّن القيام بالكثير من العمل الشاق من أجل التوصل إلى القرارات الملموسة" التي ستطرح على ماكرون والرئيس الأميركي جو بايدن خلال لقائهما المرتقب نهاية أكتوبر في أوروبا، مشيراً إلى أن بلينكن ومسؤولين فرنسيين ناقشوا خطط الترتيب لاجتماع الرئيسين هذا الشهر.

من ناحيتها، قالت الرئاسة الفرنسية (الإيليزيه) في بيان، إن مسؤولين فرنسيين ناقشوا مع بلينكن، الذي يزور البلاد لمدة يومين، لحضور اجتماعات في إطار منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، سبل إصلاح العلاقات بين البلدين بعد "أزمة الغواصات".

وعاد وزير الخارجية الأميركي المعروف بحبّه لفرنسا ولثقافتها، إلى باريس لمناقشة استعادة ثقتها ببلاده، غير أن استقباله كان فاتراً هذه المرة وسط الأزمة غير المسبوقة بين البلدين، على خلاف الترحيب الذي لقيه كصديق في يونيو الماضي.

واستهل وزير خارجية القوة الأولى في العالم زيارته صباحاً، بلقاء نظيره الفرنسي جان إيف لودريان، استقبله بعد ذلك مستشار للرئيس ماكرون، قبل أن يعود الأخير ويلتقي به.

والهدف من هذه اللقاءات "تحديد المراحل من أجل السماح بعودة الثقة"، وفق ما أوضح الجانب الفرنسي، محذراً من أن "الخروج من الأزمة سيستغرق وقتا وسيتطلب أفعالا".

وتعرب واشنطن من جهتها عن موقف مماثل، متعهدة البحث عن "أفعال ملموسة" لإرساء المصالحة.

وسعى الموفد الأميركي الخاص للمناخ وزير الخارجية السابق جون كيري للطمأنة خلال محطة له في باريس، فاعتبر المسألة "حدثا عابرا سنتخطاه قريبا". وأكد مساء أمس الأول، أن "الأمر ليس خيانة، بل قلة تواصل".

واندلعت الأزمة في منتصف سبتمبر، حين أعلن الرئيس بايدن قيام تحالف استراتيجي جديد مع أستراليا والمملكة المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، في سياق التصدي للصين الذي يشكّل أولى أولوياته.

ومع قيام هذه الشراكة التي أطلق عليها اسم "أوكوس"، فسخت أستراليا عقدا ضخما لشراء غواصات فرنسية، مما أثار غضب باريس، وتسبب في أزمة قلّما تحدث، وسحبت فرنسا سفيرها من واشنطن لفترة وجيزة بسبب المشكلة.

ولم تهدأ الأزمة قليلا بين البلدين، إلا بعد اتصال هاتفي بين بايدن وماكرون في ختام أسبوع من التوتر الشديد. وأقر الرئيس الأميركي بأنه كان بإمكان بلاده التواصل بشكل أفضل مع حليفتها منذ زمن طويل، وباشر الرئيسان "آلية مشاورات معمقة".

وستشكل زيارة بلينكن الذي سبق أن التقى لودريان في 23 سبتمبر بنيويورك بعيدا عن عدسات المصورين، محطة ضمن هذه الآلية، قبل لقاء بين ماكرون وبايدن.

لكنّ المؤشرات أفادت بأن أجواء من الفتور خيّمت هذه المرة على زيارة بلينكن الذي يتقن اللغة الفرنسية، ويعتبر فرنسا "وطنه الثاني" بعدما أمضى فيها سنوات شبابه.

أما لودريان، فقد حدّ قدر الإمكان من ظهوره مع نظيره الأميركي، ولم يعقدا مؤتمرا صحافيا مشتركا، على خلاف لقاءاته السابقة في يونيو، حين بادر بلينكن بحفاوة قائلاً له "أهلا بك في بلادك".

فالوزير الفرنسي الذي كان يتباهى قبل وقت قصير في أحاديثه الخاصة بعلاقته "الممتازة" مع نظيره الأميركي، ويصفها بأنها الأكثر "حيوية وثقة وتحفيزا" في مساره الوزاري، بدّل نبرته منذ منتصف سبتمبر، فبات يندد بـ "طعنة في الظهر" تذكّر بنهج ترامب وبـ "انعدام الثقة".

وشدد مصدر دبلوماسي فرنسي على أن "هذه الأزمة تطول مصالح جميع الأوروبيين المتعلقة بسير عمل تحالفاتنا ووجود الأوروبيين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ".

وأعرب مصدر أوروبي، قبل فترة قصيرة، عن أمله في أن تكون الأزمة حافزاً للتوصل إلى نتيجة إيجابية، وأن تتيح "توضيحا" بين ضفتي الأطلسي حول طموحات دفاع أوروبي في تكامل مع الحلف الأطلسي، وهو مشروع طرحه ماكرون نفسه.

في سياق متصل، أكد رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستيكس، أمس، أنه طلب من المفوضية الأوروبية "التحرك أكثر" واتّخاذ موقف "أكثر حزما" تجاه بريطانيا فيما يتعلق بالخلاف بشأن الصيد بين باريس ولندن.

وقال: "إذا لم يكن ذلك كافيا، فسنضغط لدفع البريطانيين لاحترام تعهّداتهم، وسنعيد النظر في جميع الشروط المدرجة في الاتفاقيات التي أبرمت برعاية الاتحاد الأوروبي، بل كذلك بالتعاون الثنائي بيننا وبين المملكة المتحدة".