كلما شهدت دولة خليجية حدثا استحوذ على اهتمام وتغطية وسائل الاعلام؛ راجت في الكويت دعوات الى تبني مشاريع وفعاليات مماثلة، وصولاً إلى نقد الإدارة الحكومية، أو حتى جلد الذات بأحاديث -معظمها صحيح- عن تدهور أوضاع لؤلؤة الخليج لدرجة تذيلها ترتيب المنافسة مع دول الإقليم في معظم المجالات.

فبينما شهدت منطقة الخليج، هذا الأسبوع، انطلاق معرض إكسبو 2020 دبي، تترقب المنطقة في موقع آخر بعد نحو 13 شهراً بداية مسابقة كأس العالم لكرة القدم (مونديال قطر 2022)، وفي الفعاليتين بلغ الإنفاق المالي على التجهيز مستويات غير مسبوقة على صعيد البنى التحتية والاستعداد لها، فما أنفقته إمارة دبي استعداداً لمعرض إكسبو 2020 يبلغ 9 مليارات دولار، أي ما يعادل 3.4 أضعاف ما أنفقته مدينة ميلانو الإيطالية في تنظيمها لآخر معرض إكسبو عام 2015. أما مونديال قطر 2022 فتكاليفه تاريخية وقياسية، إذ من المتوقع ان تصل الى 200 مليار دولار، في حين ان تكاليف مونديالي البرازيل 2014 وروسيا 2018 لم تتجاوز 14 مليار دولار لكل منهما.

Ad

مدى الاستفادة

وهنا يظهر السؤال: هل نريد حقاً للكويت أن تستنسخ النماذج الخليجية الباهرة (وليست الناجحة بالضرورة) في اقتصادها؟

الإجابة إذا اخذناها في هذا التقرير من زاوية الاحداث المهمة في مناطق الاقليم (دبي وقطر) فيجب ألا تستند إلى ارتفاع الكلفة المالية للفعاليات الضخمة، لأنها قد تكون مبررة إذا نتج عنها عوائد مالية أو اقتصادية او تنموية، كأن تفضي الى تعريف العالم بالبلد سياحيا او تخلق فرص عمل مؤقتة ودائمة، وتجلب استثمارات اجنبية كما حدث في مونديالات جنوب افريقيا والبرازيل وروسيا، أو في معارض اكسبو شانغهاي وميلانو، وهي أمور حتى الآن غير واضحة المعالم بالنسبة لدبي وقطر، والأرجح ان تكون استفادتهما من الفعاليات الكبرى محدودة، لأن نموذجهما الاقتصادي والمالي مختلف تماما عن أي مدينة أخرى استضافت نفس الفعاليات... خصوصاً أن مدن الإقليم تفتقد لعمالة وطنية تغطي الفرص المتاحة من الفعاليات او أوعية ضريبية تستفيد من عوائد المناسبات.

رهانات دبي

فإمارة دبي مثلت لسنوات طويلة صورة المدينة المتطورة البعيدة عن الاعتماد على النفط، من خلال شركاتها الضخمة، غير أن ازمتها المالية في عام 2009 والتي تمتد آثارها الى اليوم، بينت عن اختلال في النموذج تركَّز في المبالغة في الرهان على الديون لتحقيق النمو، وأيضا المبالغة في توقعات الرواج الاقتصادي في تسويق عقاراتها وخدماتها، فضلا عن الإفراط في الاعتماد على اختلال التركيبة السكانية في قيادة الاعمال (نحو 90 في المئة من سكانها وافدون)، وهذه كلها رهانات بالغة الخطورة لا تقل عن خطورة احادية الاعتماد على النفط... ولعل اختلال نموذج دبي تجسّد خلال أزمتها المالية في كياناتها التجارية الضخمة، مثل طيران الإمارات أو موانئ دبي او اعمار العقارية أو دبي القابضة، التي لم تستطع تمويل ديون الإمارة، التي فاقت قيمتها 120 مليار دولار، فيما قدمت عضيدتها إمارة أبوظبي الغنية بالنفط الدعم المالي، كي تتجاوز دبي عثرتها.

إفراط وارتهان

أما دولة قطر، التي بدأت منذ عام 1995 خطتها في الانفتاح على العالم ولا تزال تستهدف فعاليات عالمية وقارية وحتى سياسية ضخمة، فتتشارك مع إمارة دبي في الإفراط بالاعتماد على اختلال التركيبة السكانية في قيادة الأعمال، فنسبة الوافدين 80 في المئة مقابل 20 في المئة للمواطنين، وهو اختلال عميق جعل قطر، وهي البلد المنظم للمونديال، تستسهل الاعتماد على منتخب من المجنسين دون المواطنين، والخلاف هنا ليس على التجنيس بحد ذاته بل في استخدامه كبديل عن نماء المواطن وتطوير إمكانياته ومواهبه، كذلك تراهن قطر، رغم انفتاحها الاقتصادي الكبير وإنفاق المليارات على مشاريع البنية التحتية والتطوير السياحي، على الغاز كمصدر أحادي للدخل، بنسبة تصل الى 85 في المئة من إيراداتها، كما في ميزانيتها لعام 2020، وهي بالتالي لا تختلف كثيرا عن الكويت الفقيرة في تنوعها الاقتصادي، والتي تعتمد على النفط بنسبة تناهز 90 في المئة، بل إن قطر تستهدف زيادة إنتاج الغاز بنسبة 64 في المئة بحلول عام 2027، أي ان خططها المستقبلية تتجه نحو مزيد من التركيز وربما الارتهان للغاز، رغم الإنفاق الضخم على الأحداث والمناسبات العالمية الأخرى.

كذلك تنفق قطر 56 في المئة من مصروفاتها على النفقات الجارية كالرواتب والدعوم، وهي نسبة أفضل من انفاق الكويت المماثل والبالغ 75 في المئة من مصروفات الميزانية، لكنه بالتأكيد لا يعبر عن حجم الانفتاح الاقتصادي السريع المفترض انعكاسه على اقتصاد قطر وماليتها.

ماذا نريد؟!

إن ما يحتاج إليه اقتصاد الكويت، بالمقاربة مع دول الخليج الأخرى، هو تحول اقتصادي في الجوهر لا الشكل، يستهدف معالجة الاختلالات الحقيقية لا تعميقها او الالتفاف عليها، لا سيما تجاه خطورة الاعتماد على النفط بنسب تصل الى 90 في المئة، فالكويت والسعودية تعتبران من الأكثر اعتماداً على النفط والغاز، إذا احتسبنا مبيعات المنتجات البترولية والمكررة، وكذلك الأمر نفسه بالنسبة الى قطر والامارات، مما يجعل الجهد المبذول والإنفاق العالي تجاه المشاريع والمناسبات، وكذلك "الرؤى"، بلا قيمة، إن لم تصب مثلا في اتجاه خلق رديف اقتصادي مستدام يمول ميزانيات دول الخليج، ويعالج اختلالات التركيبة السكانية في المنطقة، ويخلق فرص عمل تستوعب معدلات البطالة المتنامية في المنطقة، والتي تبدأ من نصف الى 15 في المئة، حسب البيانات المتوافرة لمرحلة ما قبل كورونا (الكويت 2.5 في المئة، والسعودية 10 في المئة)، وأن يكون استقطاب الفعاليات العالمية الضخمة ضمن مشروع اقتصادي يكون النجاح او الفشل فيه بحسب ما تحققه من فوائد اقتصادية تعالج الاختلالات، لا مجرد إقامتها بصورة كرنفالية تنفق فيها مليارات الدولارات بلا عائد اقتصادي واضح.

وهذا كله لا يتحقق الا بالتزام الإدارة في دول الخليج ببيانات ربع سنوية وفصلية تبين مدى اتساق العمل التنفيذي مع الأهداف المحددة، إلى جانب هيئات تقييم ورقابة مستقلة سياسية واقتصادية، لضمان عدم انحراف النتائج أو اعتبار ما ليس من الأولويات نجاحاً أو تميزاً.

● محمد البغلي