اقتنعت فرنسا أخيراً بأهمية التجنيد العسكري بفضل عوامل متنوعة، منها الخبز الأبيض، والحساء اللزج، والحرب الفرنسية البروسية في عام 1870، علماً أن نابليون بونابرت كان قد فرض التجنيد الإجباري للمرة الأولى في عام 1789، ولاحظ نابليون مجموعة من الحاجات الناشئة: لا يتطلب الوضع تحديث القوات المسلحة المحلية فحسب، بل تحويل الفلاحين الفرنسيين في المناطق النائية إلى مواطنين فرنسيين حقيقيين، إنه عنوان كتاب يوجين ويبر الشامل Peasants into Frenchmen (من فلاحين إلى فرنسيين)، وهو يصف رحلة شاقة حوّلت مجندين عسكريين اعتُبِروا كياناً شبه أجنبي إلى مدافعين حقيقيين عن الوطن.يَصِف ويبر في كتابه جميع المصاعب الناشئة على مر هذه المسيرة، فقد خسر المزارعون جزءاً كبيراً من قيمتهم الاقتصادية بعد استدعاء أبنائهم إلى القوات المسلحة لدرجة أن يزدهر قطاع الصناعات المنزلية الذي يتطلب توظيف بدلاء عن المجنّدين، وكان نابليون يأمل أن يتعلم المجندون بعض الفرنسية أو يكتسبوا جزءاً من العادات العالمية، لكنهم كانوا ينسون كل ما تعلّموه بعد عودتهم إلى منازلهم، وبقيت الطقوس الخرافية المعيار السائد في البلد، وكان المواطنون الفرنسيون الأكثر ثراءً ينفرون من فكرة أن يختلط أولادهم مع أبناء الطبقات الدنيا في الثكنات العسكرية.
لكن برزت إيجابيات أخرى لهذا الوضع: كانت الحياة في الجيش أسهل من الحياة في المزرعة، وكان الطعام أفضل هناك، وأدت سلسلة من الإصلاحات على مر السنوات إلى تحسين سمعة التجنيد العسكري تدريجاً، وتقبّل الجميع المفهوم الذي بدأ على شكل مشروع نخبوي حين واجه الفرنسيون هزيمة حاسمة في الحرب على يد ألمانيا التي كانت تتكل على منظمة عسكرية أكثر حداثة، وعناصر أكثر احترافية، وبنية تحتية أكثر تنظيماً، وهكذا اتّضحت الحاجة إلى نشوء جهاز أمني كفؤ ومعاصر، على أن يشمل نظاماً متطوراً من التجنيد الشامل، ومع أن الفرنسيين تبنّوا هذا المفهوم، لكن بقيت مدة الخدمة العسكرية أقصر من العادة.تثبت هذه التجربة أن الوضع الجيوسياسي أعطى مفعوله فقد تزامنت المساعي الرامية إلى بناء مؤسسة فاعلة وإنشاء مجتمع سليم على مر أجيال مع الأحداث الإقليمية الصاخبة والمفاجئة.
أوروبا ودفاعها العسكري الباهت
بالعودة إلى الزمن الحاضر، نحن نعيش اليوم في حقبة مختلفة حيث تحتاج أوروبا إلى مفهوم أمني جديد، فقد انتشرت هذه القناعة تدريجياً، بعدما تابعت الإدارات الأميركية المتلاحقة الضغط على حلفائها في الناتو لتحمّل مسؤوليات إضافية وتحسين قدرتها على الدفاع عن نفسها، ثم تأكدت هذه الحاجة فجأةً، بعدما كشف الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان عجز القوات المتحالفة مع الولايات المتحدة عن التحكم بالوضع وحماية مصالحها في ذلك البلد، ووصفت وزيرة الدفاع الألمانية، أنغريت كرامب كارينباور، المشكلة بعبارات صريحة في مقالة قصيرة لصالح «المجلس الأطلسي». كتبت كرامب كارينباور التي كانت زعيمة حزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» لفترة قصيرة: «لقد عجزنا عن مقاومة القرار الأميركي بالانسحاب من البلد لأننا لم نكن نملك القدرات العسكرية اللازمة للبقاء هناك من دون الوجود العسكري الأميركي». ثم دعت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى تصحيح الوضع، فقالت: «لا يمكن أن تزيد قوة الأمن والدفاع في الاتحاد الأوروبي إلا إذا اشتقت تلك القوة من الدول الأعضاء وعواصمها، فالموارد تكمن هناك، ويمكن اتخاذ القرارات المرتبطة باستعمال القوة هناك أيضاً. تستطيع المؤسسات في بروكسل أن تقدم المساعدة طبعاً، لكن من مسؤولية الدول الأعضاء أن تتكاتف وتنهي أداء أوروبا الباهت في مجال الدفاع». كان موقف وزيرة الدفاع الألمانية مبرراً: بدأ موضوع تحديث دفاعات القارة الأوروبية يزداد أهمية خلال العقد الماضي، وتحديداً منذ أن اتفق أعضاء حلف الناتو، خلال قمة مشتركة في عام 2014، على زيادة الإنفاق العسكري في بلدانهم كي يبلغ 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الأقل (ينفق الجيش الأميركي في المقابل بين 3 و4% من الناتج المحلي الإجمالي). تهدف خطط مؤسسات الاتحاد الأوروبي، مثل مبادرة «التعاون المنظّم الدائم»، إلى تحديث جيوش الاتحاد ودمجها.لكن التاريخ الفرنسي يثبت أن هذا المشروع لا يمكن أن يبقى نخبوياً بكل بساطة، ففي نهاية المطاف، يجب أن يشتق من التصويت العام لأن شيئاً لا يُعبّر عن جوهر الأوطان أكثر من القدرات العسكرية، والهوية الفرنسية مرادفة للجيش الفرنسي، والهوية الأوروبية مرادفة للجيش الأوروبي، لكن تَقِلّ الأطراف التي تعطي الأولوية لتحسين القدرات الدفاعية في أوساط السياسة داخل أوروبا الغربية اليوم. يجب أن يطرح السياسيون الأوروبيون رؤية واضحة أمام ناخبيهم حول معنى التحرك الدفاعي الجدّي.لن يكون تغيير توجهات الرأي العام سهلاً بأي شكل، فمن المعروف أن الجيل الذي أصبح اليوم في منتصف العمر في أبرز دول الاتحاد الأوروبي، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، هو الجيل الذي شهد على إنهاء التجنيد الإجباري محلياً، ولا تتمتع أصغر الأجيال بأي خبرة في هذا المجال، في الوقت نفسه، تراجع الإنفاق العسكري في ألمانيا من 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1988 (في ألمانيا الغربية) إلى 1.1% في عام 2015، وفق أرقام «معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام» (بلغت هذه النسبة 1.4% في عام 2020)، وفي المقابل، يسجّل الإنفاق العسكري في فرنسا ارتفاعاً ملحوظاً وقد تجاوز عتبة الـ2 في المئة في عام 2020، لكنه كان يبلغ ضعف هذه النسبة في أواخر الثمانينيات، يعني توسيع الميزانيات عموماً أن يزيد الإنفاق الحقيقي، لكن تبقى تلك الزيادات ضئيلة عند مقارنتها بميزانيات خصوم محتملين مثل روسيا والصين وتركيا التي تزداد عدائية.تتزامن هذه التغيرات كلها مع ظهور جيل أوروبي لم ينشأ وهو يفكر بأهمية الدفاع العسكري، إلا إذا تعلّق الموضوع بمصالح فردية معينة، إذ يتكلم محللو السياسة الخارجية عن وهم «نهاية التاريخ» الذي ضلّل جيلاً كاملاً من صانعي السياسة، ويُعتبر تلاشي الفكر العسكري بهذا الشكل نسخة شائعة من تلك الظاهرة. بدت هذه الفكرة مناسبة في تلك الحقبة: أصبح التجنيد الإجباري مجرّد خيار قديم ومكلف، واختفى الاتحاد السوفياتي، ورسّخت أوروبا دورها في العالم بناءً على مبادئها الأخلاقية، وتركت مهمة الإنفاق العسكري على عاتق الولايات المتحدة.لهذا السبب، لا تتعامل الأطراف المؤثرة مع المسائل العسكرية وكأنها جزء من المبادئ التنظيمية الأولية لمنصاتها، وفي المقابل، تتعدد الجهات التي تدعو إلى الانسحاب من حلف الناتو أو التخلي عن الأسلحة النووية، وغالباً ما يبقى هذا المعسكر على الهامش، لكن تولى جيريمي كوربين لسنوات رئاسة المعارضة البريطانية، وخاض حزب «فرنسا الأبية» بقيادة جان لوك ميلنشون حملة أقوى مما توقّع الكثيرون في آخر انتخابات فرنسية كبرى، وحتى كتابة هذه السطور، قد يصبح حزب «اليسار» جزءاً من الائتلاف الحاكم المقبل في ألمانيا.أمل جديد بنشوء جيش أوروبي؟
رغم كل شيء، تتعدد المؤشرات التي تثبت استعداد الأوروبيين للتجاوب مع الواقع الجديد الذي يفرض تهديدات كثيرة على قارتهم، حيث ينطبق هذا الوضع تحديداً على أطراف القارة، فقد فرضت دول مثل السويد التجنيد الإجباري مجدداً (ولم توقف دول أخرى هذا التجنيد يوماً). كذلك، تتوق بلدان مثل بولندا إلى صدّ التهديد الروسي على حدودها، لكنّ عمق أوروبا الغربية (من فرنسا وألمانيا اللتين تحركان الاتحاد الأوروبي إلى الأعضاء الأصليين في الاتحاد والناتو) هو الذي يحدد حركة القارة ككل، وفي ذلك العمق الأوروبي، تتوقف أي رؤية دفاعية متماسكة على الاختيار بين آليات الناتو أو الاتحاد الأوروبي كإطار عمل للمضي قدماً. بشكل عام، لطالما شددت أحزاب اليمين المتطرف على الشؤون الوطنية حصراً، مما أدى إلى نشر الحذر وسط الناخبين.يجب أن يضطلع السياسيون في أوروبا الغربية بدور مهم، إذ اتّضح هذا الدور بعد صدمة أفغانستان الأخيرة ويُفترض أن يزداد وضوحاً في ظل الاضطرابات السياسية التي تشهدها الولايات المتحدة على الطرف الآخر من الأطلسي، وقد كانت كرامب كارينباور محقة حين قالت إن التغيير يكمن في عالم السياسة الوطنية، وبالتالي من واجب القادة السياسيين الوطنيين أن يُخرِجوا نقاشاتهم من منتديات الاتحاد الأوروبي ويطرحوها أمام ناخبيهم بطريقة تضمن تشجيعهم وزيادة حماستهم.يجب ألا يحتاج الأوروبيون إلى أجيال عدة قبل الالتفاف حول هذا المفهوم، كما حصل في بداية التجنيد الإجباري، لأن العالم في القرن الحادي والعشرين بات أسرع من أن ينتظرهم... على أمل أن تحصل التغيرات المطلوبة قبل أن تفرضها الوقائع على الأوروبيين بالقوة.