بعد عشرين سنة على نجاح الولايات المتحدة في إسقاط نظام «طالبان»، استرجعت هذه الجماعة المتمردة السلطة في كابول في 15 أغسطس الماضي، فسمح انهيار حكومة أشرف غني وقوات الأمن الأفغانية بطريقة صادمة لمقاتلي «طالبان» بالاستيلاء على عواصم المقاطعات، واحدة تلو الأخرى، خلال فترة عشرة أيام، حتى أنهم سيطروا على كابول من دون خوض أي معركة.

بعد الاستيلاء على كابول، بدأت عمليات إجلاء الدبلوماسيين والمواطنين الأجانب، وحتى الأفغان الذين عملوا سابقاً مع التحالف الذي قادته الولايات المتحدة أو مع حكومة غني لأنهم يخشون من انتقام «طالبان» الآن. بدت مشاهد الإجلاء من السفارة الأميركية في كابول عشية استيلاء «طالبان» على المدينة مشابهة لسقوط سايغون في عام 1975.

Ad

لكن رفض وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إقامة هذا النوع من المقارنات بين عمليات الإجلاء الأميركية في سايغون وكابول وقال: «كابول ليست سايغون». قد يكون بلينكن محقاً، لكنّ هزيمة الولايات المتحدة، هذه القوة العالمية التي تملك جيشاً هو الأكثر تطوراً في تاريخ البشر من الناحية التكنولوجية، على يد بضعة آلاف المقاتلين في «طالبان» أمعن في إضعاف النفوذ الأميركي في المنطقة ككل.

خلال الأسابيع التي تلت سقوط كابول بيد «طالبان»، تعرّض الرئيس الأميركي جو بايدن لانتقادات لاذعة عالمياً، بما في ذلك من أقرب حلفاء واشنطن، إذ يشكك هؤلاء اليوم بمصداقية الولايات المتحدة كحليفة وبقدرتها على تنفيذ التزاماتها الأمنية القديمة.

لكن يفضّل مايكل كوغلمان، نائب مدير «برنامج آسيا» وشريك بارز في ملف جنوب آسيا في «مركز وودرو ويلسون»، انتقاد طريقة الأميركيين في تنفيذ قرار سحب القوات العسكرية بدل انتقاد القرار بحد ذاته، فصرّح كوغلمان لصحيفة «دبلومات»: «كان قرار الانسحاب منطقياً، لكن نظراً إلى طريقة تنفيذه الكارثية، من الطبيعي أن يبدو الانسحاب قراراً أسوأ مما هو عليه».

برأي كوغلمان، بدأ النفوذ الأميركي في المنطقة يتلاشى قبل الانسحاب من أفغانستان بكثير: «ترتبط الولايات المتحدة بعلاقة عميقة مع الهند، لكن باستثناء هذه العلاقة، انحسرت بصمتها في جنوب آسيا وآسيا الوسطى منذ وقت طويل بسبب توسّع نفوذ الصين وبعدها روسيا».

كانت «طالبان» جماعة منبوذة دولياً في آخر مرة وصلت فيها إلى السلطة، لكن خلال العقدَين الأخيرَين، صمد عناصرها في ظل جماعة متمردة ونضجوا سياسياً وباتوا أكثر براغماتية، لكن من دون أن يصبحوا معتدلين من الناحية الأيديولوجية، فهذه المرة، تتعدد الدول التي تحاول التقرب من «طالبان».

تزامناً مع انشغال إدارة بايدن بسحب القوات الأميركية من أفغانستان، استضافت بكين وموسكو وفداً من «طالبان» لضمان ألا تُهدد الجماعة المسلّحة المصالح الروسية والصينية في المنطقة، وبعد أقل من شهر على عودة «طالبان»، استضافت باكستان اجتماعاً لوزراء خارجية الصين، وإيران، وطاجيكستان، وأوزبكستان وتركمانستان. يقول المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، تشاو ليجيان، إن جميع المشاركين في الاجتماع كانوا مقتنعين بأن الولايات المتحدة وحلفاءها مسؤولون عن الأزمة في أفغانستان، كما تعمد دول متزايدة اليوم إلى التواصل مع «طالبان»، لكن لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة خسرت كل تأثيرها على الحركة.

في هذا السياق، صرّح الباحث عبدالباسط من «مدرسة راجاراتنام للدراسات الدولية» في سنغافورة لصحيفة «دبلومات»: «يتكل اقتصاد أفغانستان على المساعدات الخارجية، وتستطيع الولايات المتحدة أن تضغط على «طالبان» عبر المؤسسات المالية ووكالات الإغاثة الدولية، لكن قد تُصِرّ «طالبان» على عنادها رغم هذه الضغوط وقد تستغل القوى الإقليمية هذا الوضع لمصلحتها».

يضيف كوغلمان: «لم يشكك أحد في احتمال أن يحصل خصوم الولايات المتحدة على فرصة استراتيجية قيّمة غداة انسحاب قوات التحالف، لكن هل ستستفيد هذه الجهات من الوضع في ظل التحديات المرافقة لمساعي تعزيز النفوذ والاستثمار في دولة غارقة في الحرب»؟

برأي روسيا والصين وباكستان، يترافق الانسحاب الأميركي مع الفرص والمخاوف في آن، وتشعر موسكو بالقلق من احتمال تصدير تطرّف «طالبان» إلى حلفائها في آسيا الوسطى، مثل أوزبكستان وطاجيكستان، وفي المقابل، تخشى الصين وباكستان تمدّد أعمال العنف من أفغانستان وإعاقة «مبادرة الحزام والطريق» ومشاريع «الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني».

يضيف كوغلمان: «بما أن الحرب انتهت، في الوقت الراهن على الأقل، تبدو الظروف مؤاتية لاقتناص الفرص، لقد تراجعت المخاوف الأمنية التي تحملها روسيا والصين، حتى أنهما تعرفان متحدثاً في «طالبان» وسيكون هذا الأخير مستعداً للتواصل معهما على الأرجح».

افترض بايدن أن إنهاء الوجود الأميركي العسكري في أفغانستان سيسمح له بتحويل تركيزه من صراعات الشرق الأوسط إلى خصوم مثل الصين، وتأكيداً على هذا التحوّل، زارت نائبة الرئيس كامالا هاريس دول جنوب شرق آسيا في ظل الفوضى السائدة في أفغانستان لطمأنة أهم الشركاء حول استمرار الالتزامات الأميركية في المنطقة.

لكن قد تواجه محاولات بايدن تحدّي الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ انتكاسة معينة بسبب طريقة تعامله مع الانسحاب من أفغانستان، يقول عبدالباسط: «سيفكّر أي بلد ملياً قبل الوثوق بالولايات المتحدة غداة تخلّي الأميركيين عن الأفغان».

سخرت صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية الحكومية من مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض، جايك سوليفان، بعد تعليقه على الالتزام الأميركي بملف تايوان، فاعتبرت تطمينات واشنطن لتايوان صادمة بعد انسحابها المفاجئ من أفغانستان، وزاد الوضع سوءاً بعدما أنهت الولايات المتحدة حربها في أفغانستان بإطلاق صاروخ نحو منطقة سكنية في كابول، مما أسفر عن مقتل عشرة مدنيين، منهم سبعة أولاد.

في آسيا الوسطى وجنوب آسيا، يحمل الفرد الذي يُعتبر عميلاً للأميركيين وصمة عار كبرى في أفضل الأحوال أو يتعرض للقتل في أسوئها، إذ يتّضح هذا الواقع في مشاهد الأفغان وهم يلتصقون بطائرات سلاح الجو الأميركي في محاولة يائسة منهم للهرب من البلد.

يقول كوغلمان: «لن يتخطى الأميركيون يوماً مشاهد الأفغان المعلّقين بطائرات سلاح الجو الأميركي للهرب، فقد أدت التطورات المتلاحقة في أفغانستان خلال الأشهر الأخيرة إلى تخييب أمل حلفاء واشنطن وزيادة جرأة خصومها، وكان إقدام واشنطن على إبعاد باكستان، شريكتها الاستراتيجية القديمة، أشبه بناقوس خطر ينذر بتلاشي النفوذ الأميركي في المنطقة، وللحفاظ على هذا النفوذ إقليمياً، يجب أن تعترف الولايات المتحدة بحكومة «طالبان» في الحد الأدنى.

إذا حققت إدارة بايدن هدفها وجدّدت التحالفات الأميركية وعادت إلى تطبيق مبدأ التعددية، فستصمد رغم جميع المصاعب وستتراجع حدّة التداعيات على المدى الطويل، لكن تبقى الأحداث الأخيرة لطمة موجعة في وجه المصداقية الأميركية، على المدى القريب على الأقل.

من خلال إطلاق الحرب على الإرهاب ودفع تريليونات الدولارات لاحتواء الأعمال الإرهابية، أعطت الولايات المتحدة الوقت اللازم للصين كي تصبح قوة عالمية، ولروسيا كي تبني قدراتها، وبعد الانسحاب الأخرق من أفغانستان، أسدت واشنطن خدمة أخرى لخصومها.

أخيراً، يستنتج عبدالباسط: «لكل شيء نهاية، وربما حان وقت انتهاء عصر الولايات المتحدة كقوة عظمى».

● نيها داغيا – دبلومات