مع نهاية تعاملات الأسبوع الماضي، يكون برميل النفط الكويتي قد حقق منذ بداية العام الحالي نحو 56 في المئة، في حين بلغت مكاسبه منذ بداية السنة المالية في الأول من أبريل 2021 نحو 33 في المئة، ليستقر على مستوى 82.4 دولاراً للبرميل، متجاوزاً سعر الأساس الذي بنيت عليه توقعات الميزانية بـ 37.4 دولاراً، أي بنسبة 83 في المئة، ومنخفضاً عن سعر التعادل في الميزانية البالغ 90 دولاراً بـ 8.4 في المئة، في حين يصل حجم الإنتاج اليومي إلى مستويات دون التوقعات الواردة في ميزانية السنة المالية 2021 -2022 البالغة 2.425 مليون برميل يوميا، بنحو 4 الى 6 في المئة، بحسب ما تفرضه تطورات اتفاقات منتجي النفط (أوبك بلس) على حصة الكويت الإنتاجية، وبالتالي إيراداتها النفطية.
ولم يكن لأكثر المتفائلين في بداية العام الحالي، في ظل الأجواء الصعبة لجائحة كورونا وآثارها السلبية على الاقتصاد العالمي والطلب على النفط، أن يتوقع أن يحقق سعر برميل النفط كل هذه المكاسب المدعومة بشكل أساسي بتحسن الوضع الوبائي الناتج عن فيروس كورونا، بالتوازي مع استمرار منتجي النفط من خلال "أوبك بلس" في المحافظة على سياسة الانتاج التي تنظر بقدر معين من التحفظ تجاه نمو الطلب العالمي للنفط، وما قد يصاحبه من تراجع أو هبوط، حال حدوث تطورات او تحورات للجائحة تفضي إلى نتائج سلبية.
كويتي وهولندي
وفي الحقيقة، فإن لارتفاع أسعار النفط على الكويت آثاراً سلبية أكثر من الإيجابية المتمثلة في نمو الإيرادات النفطية، لدرجة ربما تغطي عجز الميزانية المفترض بالكامل حال استمرار الرواج وتصاعده، لكنه سيعمل على تعميق أو استفحال "المرض الكويتي"، الذي يمكن اعتباره تحورا أو تطورا لما يعرف اقتصاديا بالمرض الهولندي الذي يصف حالة الرفاهية الزائفة في تلك البلاد نتيجة اكتشاف النفط والغاز في بحر الشمال، مما أدى الى تدهور الانتاج الصناعي وزيادة الاعتماد على العمالة الخارجية، بالتوازي مع ارتفاع حاد في سعر العملة الوطنية (الغيلدر) وما تبعه من نتائج تضخمية قبل أن تنتبه الادارة في هولندا لتراجع تنافسيتها أوروبيا فوضعت حدا من استنزاف جيل واحد لثروات الاجيال المقبلة.أضرار الارتفاع
ودون استطالة في شرح أعراض "المرض الكويتي" فإن ارتفاع أسعار النفط يعني للاسف، كما عودتنا السياسات التنفيذية لأكثر من حكومة متعاقبة، استمرار كل الممارسات الضارة والسلبية، التي تحمل المالية العالمة أعباء مستدامة وتزيد من شراهة الإنفاق، فهي تعني استمرار الإنفاق المنحرف والهدر بمليارات الدنانير سنوياً على أوجه لا تضمن ديمومة الاقتصاد، وتعني أيضا استغلال السيولة النقدية في توظيف أكبر عدد من المواطنين في القطاع العام بكل ما تحمله من مطالبات تتعلق بالكوادر المالية والبدلات الوظيفية، على حساب إصلاح سوق العمل وخلق الفرص الوظيفية في القطاع الخاص وتنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة، كما أنه يعني استسهال إنشاء المزيد من الهيئات الحكومية بميزانيات ورواتب ضخمة، حتى باتت كحكومة موازية تفرغ الوزارات من اختصاصاتها الأصلية.وارتفاع أسعار النفط في الكويت لن يمنع ما لم تمنعه أو تحد منه سنوات العجز السابقة من استسهال ان تكون اموال الدولة وسيلة لعقد الصفقات السياسية أو إحراج الخصوم، كأن تدفع الدولة نحو مليار دينار تكلفة وقف استقطاع أقساط القروض عن المواطنين أو ان تتساهل في منح مكافآت الصفوف الأمامية حتى لغير المستحقين، أو ان تدفع مليارات الدنانير لشراء الولاءات عبر ما يعرف بالعلاج في الخارج.إسقاط فرضيات الإصلاح
كما أن هذا الارتفاع الحاد سيقضي حتى على أي فرضيات مقترحة كإصلاح أبواب الدعوم وتوجيهها للمستحقين، دون أي تمييز إن كان المتحصلون على الدعم افرادا ام شركات، كما انه سيفضي لمزيد من التساهل في الانفاق السنوي على مشاريع ومناقصات مليارية غير مجدية، وينمي الاعتقاد الخاطئ بأن المال يمكن أن يعوض القصور في تقديم الخدمات الاساسية كالسكن او التعليم او الصحة، وحتى خدمات الطرق.كما أنه أيضا يعني، على المدى المتوسط، تأخيرا في فهم التحولات التي طرأت في سوق النفط من توجهات بيئية وسياسات مناخية تعطي شعوراً زائفاً بالوفرة المالية وأن الاسعار الحالية للنفط هي أسعار مستدامة، وليست ناتجة عن توافق مجموعة "أوبك بلس" على خفض الإنتاج.التزامات متضاعفة
والمرض الكويتي بقدر ما فيه من تشابه مع نظيره الهولندي إلا أنه يتجاوزه بأنه يزداد انتشاراً كلما ارتفعت أسعار النفط عالمياً، فالكويت خلال الفترة من 2001 إلى 2021 شهدت تضاعفاً في الإنفاق العام من 3.1 مليارات دينار إلى 23 ملياراً، بنسبة نمو قياسية بلغت 742 في المئة، مثلت خلالها مصروفات الميزانية الجارية على شكل رواتب ودعومات التزامات لا يمكن التراجع عنها، وإلا أفضت إلى أزمات اقتصادية واجتماعية وربما سياسية، إذ لم تساهم زيادة إيرادات النفط وما كونته من فوائض مليارية في خلق مناخات تقلل من التزامات الميزانية، بل ساهمت في تعظيم المصروفات وزيادة الالتزامات.عجز رغم الارتفاع
وليس هناك أصعب على اقتصاد الكويت من أن ترتفع أسعار النفط منذ بداية العام بصورة قوية أو قياسية دون أن ينعكس هذا الارتفاع كفوائض على الميزانية العامة التي بلغ فيها سعر التعادل 90 دولاراً، وهو أمر مستجد على المالية العامة التي دائماً ما تتلقى مسكنات قوية من ارتفاع أسعار النفط تجبر عجز الميزانية، وتؤجل أي بديل للعلاج الاقتصادي المطلوب، لكن الكويت اليوم باتت أقل مرونة وتفاعلاً مع أسعار النفط من أي فترة أخرى سابقة.تراجع المسكنات
الأسوأ من استخدام النفط كمسكن للمرض هو أن نوعية المسكن باتت أقل فاعلية، وأقل استدامة، فالإجراءات التي اتخذتها الحكومة خلال الفترة الماضية لتغطية العجز وتوفير السيولة لسداد النفقات الضرورية تتسم بكونها دفاعية ذات أمد قصير كمبادلة أصول الاحتياطي العام بسيولة احتياطي الأجيال القادمة أو توريد الأرباح المحتجزة من مؤسسة البترول إلى الهيئة العامة للاستثمار - الاحتياطي العام - وكذلك وقف استقطاع حصة صندوق الأجيال القادمة المقدّرة بـ 10 في المئة من إجمالي الإيرادات النفطية وهذه كلها مسكنات أو إجراءات يصعب تكرارها أكثر من مرة.النرويج أم فنزويلا؟
ارتفاع أسعار النفط يضع "المرض الكويتي" مجدداً أمام مفترق طريق تحديد المسار، فإما نموذج النرويج التي تلافت كل تداعيات المرض الهولندي على اقتصادها وجعلت إيرادات النفط مستقلة في صندوق سيادي منفصل على أن تمول الميزانية من إيرادات الأنشطة الاقتصادية فأنتجت أفضل نظام صحي واجتماعي في العالم، إلى جانب تحقيق أحد أعلى مستويات الدخل في العالم للفرد، وهذا النموذج بالطبع لا يمكن للكويت تطبيقه فجأة وبالكامل، بل ضرورة السير فيه، وإما أن نسقط، مثل نموذج فنزويلا، سادس أكبر منتج للنفط في العالم في فخ الثروة وكل ما يترتب عليه من فقر وبطالة وتضخم وتعثر في سداد الديون.