تحمل اغترابك في باطن قلبك وترنو به وبنفسك، تحلق أحياناً في عوالم تبقى أحلام يقظة أو على العكس استفاقات ما بين بين... بين جرعة من الواقع وأخرى وكلتاهما باردة حتى الجليد، في لحظة بحثك عن الدفء الذي كان هو الوطن تهت ما بين بين فلا أنت قادر على صقيع الوطن ولا لامبالاة المدن البعيدة. هو الاغتراب الأبدي يقول صديقي الذي غادر وطنه بعد أن تلامس مع الموت في إحدى زنازينهم: من هم؟ لا تسألوا عن مكان الزنزانة فهي تتشابه وتتنوع وتلتقي كلها رغم بعد المدن والمسافات واختلاف الأوطان والأنظمة! آه كم تتشابه السجون حتى تلك التي لا أسوار لها، وحتى منها المزينة بمبانٍ حديثة ويديرها رجال بربطات عنق أو بشماغ أو حتى نساء بفساتين فاخرة، كلها سجون والعامل الذي يجمع بينها هو اغتراب بعضنا فيها حتى لو كانت هي مسقط رأسه وخزانة ذكريات طفولته.
تقول له "ابحث عن زاوية أستطيع أن أستقر بها آخر سني عمري حتى لو كانت من خرم إبرة". يضحك كعادته وسخريته المعتادة، فيقول لها نحن مصابون بداء الاغتراب المزمن أو الأبدي، اغتراب في أوطاننا واغتراب في غربتنا، حيث بعدنا بحثا عن مساحة لا تنتهك آدميتنا وإنسانيتنا بشكل يومي، ولكننا قادرون أن نصنع مساحات لنا أو لمن يشبهنا "أليس كذلك؟"، ينقطع الاتصال رغم أنه لم يكن صوتياً بل عبر الرسائل النصية، ربما انشغل هو بأمر عارض وهي الأخرى التهت بتفاصيل الأيام المغمسة بالتوجس، فجأة تصلها وصلة لمؤتمر في بلدها الذي كان، تصاب ببعض الحماس لأنهم يكرمون النساء وهو أمر ليس عادياً في أوطان لا تحترم المرأة ولا تمنحها المناصب إلا لمن هم من لون واحد أو من يتلونون بلون الآمر والحاكم وما يحب.هذا مؤتمر آخر لنساء ربما يشبهننا أو كنّ كذلك، فقد تتابعت الصور الصادمة، ما الذي حدث بنا؟ ما الذي أصابنا في قناعاتنا ومبادئنا وقيمنا؟ ما الذي نسف ما ناضلنا من أجله ودافعنا عنه بكثير من التعب ولن أقول الدم لأن في مثل هذه العبارة كثيراً من العنف الذي يلون أيامنا. لا تتمالكين نفسك من طرح السؤال، بل الأسئلة وتتذكرين ذاك العنوان لصديق وأستاذ كان ولا يزال يستحق لقب المعلم، الدكتور جلال أمين طرح أسئلته في كتب وهي ذاتها التي كان يكررها عند لقاءات جمعتنا على مركب صغير لصديقتنا المشتركة في مساءات النيل الساحر، كيف يحتدم النقاش حول ما أصابنا جميعا من شعوب وقوميات ونحن في حضن النيل والشمس تبتعد كثيراً لتترك مساحات لقمر القاهرة الذي لا يشبهه أي قمر.. نقاش "نكد" في أجواء ساحرة، هكذا هي أوطاننا أو هكذا كانت مليئة بالمتناقضات الجميلة التي صارت من فعل الماضي البعيد رغم قربه. عاد هو إلى هاتفه ليصاب بالذهول من هول الصورة، وما حدث لنسائنا من مراكش إلى البحرين، ولم يستطع أن يتفوه أو يكتب سوى "القادم أسوأ يا صديقتي العزيزة"، القادم أسوأ كان جوابها هي أيضا، صديقة أخرى في مدينة أخرى أو وطن آخر لم تعد هي أو حتى أخريات يشبهنها يتعرفن عليه من شدة بعده عما كان! وكأنه كتب عليها في ذاك اليوم تحديداً أن تتلقى الرسائل التي توقظ بداخلها مساحات الاغتراب التي تعمل جاهدة ألا تنغمس في حوار مع نفسها حولها! أرسلت لها رسالة صوتية قالت فيها "أحببت أن أشاركك هذه العبارة من رواية أمين معلوف والتي قرأتها فاعتصر قلبي"، وختمت ارحل اليوم وحتى نلتقي في القريب، ونقلت العبارة كاملة وهي: "متى تعرف أنك تائه؟ عندما تقف في بلادك، وعيناك ترنو إلى بلاد أخرى، عندما تقف في بلاد لم تنشأ فيها، وعيناك ترنو إلى بلادك.. وعيناك على مستقبل تراه مستحيلا، عندما تبقى في بلادك،وعيناك على ماض لن يعود أبدا".تكمل بصوتها الرقيق "خلي بالك من نفسك وما تخاطري كثير.. قلبي معك دوما وابقي بخير"ترحل هي أو تنتهي أنت من سماع رسالتها الصوتية، فتزدحم الأسئلة برأس أتعبته الأيام والإصابات المتلاحقة والأوجاع المنثورة بين مدينة ومدينة، تعود من جديد لفنجان قهوتك واغترابك حتى وأنت في وطنك!* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.
مقالات
استفاقات ما بين بين أم أحلام الاغتراب؟
11-10-2021