من حق الأجيال العربية التي لم تعاصر حرب أكتوبر العظيمة أن تزهو مثلنا نحن الجيل الذي عاصرها، وأن تتباهى وتزهو وتفتخر بالنصر العظيم الذي حققته الأمة العربية كلها في السادس من أكتوبر سنة 1973، والذي يجري الاحتفال به في الذكرى الثامنة والأربعين له هذه الأيام، ومن حقها أن تعرف حقيقة هذا النصر ومقدماته، وهو النصر الذي أذهل العالم كله، بخبرائه السياسيين والعسكريين، والتضامن العربي السياسي والعسكري والاقتصادي الذي قام على أساسه هذا النصر، لتؤمن هذه الأجيال بقدرات هذه الأمة وإمكاناتها وعظمتها، وأنها قادرة على تحقيق المعجزات. ويصبح واجباً علينا مضاعف الأثقال في أعناقنا أن تعرف هذه الأجيال إمكانات هذه الأمة وقدراتها وعظمتها، في زمن الانكسارات والهزائم، وفي زمن الدم العربي الذي يراق بسلاح عربي.
فعلى المستوى العسكري العربي كانت جبهات الحرب الثلاث المصرية والسورية والأردنية تتلقى قبل حرب أكتوبر وأثناءها دعما عسكريا من الدول العربية أسراباً من الطائرات وقوات مشاة وقوات مدرعة من المحيط إلى الخليج، من تونس والمغرب والجزائر وليبيا في الشرق إلى الكويت والمملكة العربية السعودية في الغرب ومن السودان جنوبا، ولم يحدث أن عرف التضامن العربي مناسبة اجتمعت فيها كلمة العرب جميعا شعوبا وحكاما على النحو الذي شهدته حرب أكتوبر، في مشهد بديع افتقدناه كثيراً بعد ذلك. إن روح أكتوبر العربية يجب أن تتجدد في أعماق هذه الأجيال، التي لم تعاصر حرب أكتوبر وتتذوق حلاوتها مثلنا، وأن تصبح أسلوب حياة وحافزا للهمم، للعودة الى الوحدة العربية، وحدة الصف ووحدة الموقف والكلمة، فتضحيات أكتوبر العربية لا يجوز أن تذهب سدى أو تذروها الرياح، فالأمم العظيمة تصنعها تلك التضحيات، والأمة العربية هي عظيمة في ذاتها وقد جمعها الدين واللغة والعادات والتقاليد، فتضحيات 6 أكتوبر يجب أن تعيدها الى سابق مجدها. ومعركتنا مع إسرائيل، حتى يتحقق السلام العادل، بإنشاء دولة فلسطينية على أرض 1967، هي معركة قومية، معركة وجود وحياة، ذلك أن أهداف إسرائيل التوسعية، وأحلامها من النيل إلى الفرات، هي أهداف وأحلام معلنة، تحت سمع وبصر العالم كله، حيث يقول بن غوريون، أول رئيس لوزراء إسرائيل، إنه ستنشأ ظروف لتوسيع حدود الدولة، وإذا لم تنشأ فعلينا أن نصنعها بأيدينا، كما قالت غولدا مائير إن حدود إسرائيل في أي دولة يوجد فيها يهود. وهي متوارثة من العقيدة اليهودية، فهم يعتقدون أن أرضهم، كما ورد في الوعد الإلهي لنبيّ الله إبراهيم في سفر التكوين الإصحاح التاسع "هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات". فضمنت إسرائيل تأييد الغرب والعمل على تحقيق هدفعها التوسعى. الممر المائي وأنابيب النابالم وقد أدى النصر العظيم الذي حققه الجيش في ساعات، بعبوره قناة السويس إلى الضفة الشرقية التي تربض فيها قوات العدو، في سرعة مذهلة، والتي وضع فيها العدو 31 نقطة حراسة قوية، تخرج منها فتحات على القناة لأنابيب النابالم لتحويل القناة إلى حجيم من نار تحرق قوات الجيش المصري إذا حاولت اقتحام الممر المائي لقناة السويس، فقامت قوات الصاعقة المصرية في جنح الظلام بسدها بالإسمنت في ليلة العبور. خط بارليف كما استطاعت القوات المصرية أن تهدم خط بارليف المنيع الذي يصل ارتفاعه إلى عشرين متراً، بخراطيم المياه التي أزالت السد الترابي لهذا الخط، والذي قال السوفيات عنه إن فتح ثغرة واحدة في خط بارليف يحتاج الى قنبلة نووية، وكان من رأي الخبراء العسكريين، أن القوات المصرية، ستدفع ثمنا باهظا في عبور الممر المائي وإزالة خط بارليف، وقد تصل خسائر مصر إلى 60% من قواتها العسكرية. نوعية المقاتل وأفرزت حرب أكتوبر عاملا جديداً، لم يظهر من قبل، في حسابات القوة العسكرية، وهو العنصر البشري، فبفضل الجندي المصري تحقق إنجاز حرب 1973، حيث قامت معاهد الدراسات الاستراتيجية والعسكرية بإضافة عامل جديد لحسابات القوى، وهو "النوعية القتالية"، ويقصد بها الفرد المقاتل، ذلك العامل الذي غاب قبل 1973، عن كل الحسابات والتقديرات، مما أدى إلى نتائج غير صحيحة عن تفوق الجيش الإسرائيلي.ومن أسبابه الإيمان المطلق بالله وقيم إنكار الذات والتضحية والفداء والمجد كعقيدة قتالية، وكان أول نداء للجنود المصريين بعد عبورهم القناة "الله أكبر"، فضلا عن التغيير الكبير في نوعية المجندين أنفسهم، الذين أصبح الكثير منهم من ذوي المؤهلات الجامعية الذين دخلوا الجيش غداة 1967 لخدمة عسكرية لمدة عام ولكنهم استمروا حتى أكتوبر 1973 وأضافوا إلى نوعية المقاتل إضافة جديدة من التدريب والتثقيف واللياقة الذهنية والصحية العالية وهو ما أحدث تغييرا كبيرا في مفاهيم مراكز الدراسات الاستراتيجية. لقد كان من أهم الإضافات التي حققتها حرب أكتوبر، لمبادئ القتال في العقيدة الغربية، مبدأ "النوعية"، بعدما اعتمدت مقارنة القوات قبل حرب أكتوبر على أعداد الأسلحة والمعدات (الدبابات والمدفعية والطائرات والغواصات والمدمرات)، ولعل أشهر هذه الدراسات التقرير السنوي الشهير لمعهد الدراسات الاستراتيجية في لندن llss "التوازن العسكري" THEMILITARY BALANCE، الذي كانت تعتمد مقارناته بين القوات العسكرية على عدد المعدات والأسلحة التي تمتلكها الدول، والتي أظهرت التفوق الكامل لإسرائيل وجاءت حرب أكتوبر لتضيف هذه المراكز إلى استراتيجياتها "نوعية المقاتل". وعندما سأل معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن llss "ما مفاجأة حرب أكتوبر لكم أيها الإسرائيليون؟". قالوا: الجندي المصري، وفي هذا السياق ألف الجنرال داني أشر كتابه "الاستراتيجية المصرية في حرب كيبور" الصادر عن دار نشر ماكفار لاند بولاية نورث كارولينا الأميركية والذي نشر لأول مرة بالعبرية، ثم ترجم إلى اللغة الإنكليزية، يقول فيه إن القيادة المصرية، طوعت الخطط الحربية التي تبنتها دول العالم في ضوء طبيعة الموقف الاستراتيجي والجغرافي والعسكري، الذي واجهها لشن حرب شاملة على الأراضي المحتلة في سيناء.وقد أبلى قادة الأفرع وهيئة أركان الحرب وسلاح المشاة بلاء حسنا في تنفيذ تلك الخطط حسبما يقول داني أشر، وفي تنفيذ العمليات العسكرية، بل التخطيط المفصل للحرب، الذي ركز على وضع المشكلات والحلول على المستويين التكتيكي والتقني، انطلاقا من شن الهجوم الخاطف، والتغلب على الموانع المائية، وبناء رؤوس الكباري والدفاع عنها، ويقول أشر إن هذا التخطيط كان متقنا وخاطفا، على نحو شل قادة الجيش الإسرائيلي وضباطه وجنوده، مشيراً إلى أن الوقت القصير الذي تمت فيه العمليات، كان كافيا "لتحطيم أسطورة التفوق الإسرائيلي". وقد أدت شجاعة جنود المشاة المصريين دوراً كبيراً، حسبما يرى أشر، في إصابة الدبابات الإسرائيلية بالشلل، في مواجهة الجنود الذين عبروا القناة بجسارة أذهلت العالم كله. وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مقالات
في ظلال الدستور: نصر أكتوبر... الملحمة العربية (1-3)
11-10-2021