الأزمة السياسية التي يعيشها البلد منذ عشرة أعوام، ليست طارئة ولا مستجدة، بل حاضرة منذ أن تم حل مجلس عام 2012، حيث تم العبث بالنظام الانتخابي بتفرد من السلطة بفرض نظام الصوت الواحد، وما أدراك ما نظام الصوت الواحد؟! فقد أدخل البلد في نفق سياسي مظلم، فمنذ أن بدأ تطبيقه تم تفتيت البلد لأوصال صغيرة أكثر مما كانت عليه حاله من تقطيع سابق، فقد كرّس نظام الصوت الواحد الأمراض الاجتماعية والسياسية والفئوية التي عانى منها البلد منذ عام 1981، حينما تم تطبيق نظام الـ 25 دائرة إلى وقت صدور قانون الصوت الواحد، حيث تفشت الفئوية بصورة مخيفة بكل أبعادها قبلية، أو طائفية، أو مناطقية، أو عنصرية، بل ظهر تفتت فئوي داخل كل مكون اجتماعي على نحو يهدد كيان الدولة، وتلاشت المواطنة، وحل مكانها الولاء الفئوي الضيق والمقيت. وراجت المتاجرة بالأصوات وشراؤها، واكتسح المشهد السياسي نواب الخدمات ومناديب المال السياسي، وتضخمت بوجودهم عمليات غسل الأموال، وتضخمت الحسابات البنكية، واستمر العبث بالقيود الانتخابية ونقلها، كل ذلك على مسمع ومرأى الأجهزة الرسمية، لكن الدولة غائبة، بل قل مغيبة.وفي معية نظام انتخابي فاسد انتقائي استشرى الفساد ورموزه وسدنته وسماسرته، حتى بلغ مرحلة عصف فيها بكل مقومات الدولة، فالسلطات مختطفة أو هزيلة أو غائبة، لكنها بالتأكيد متآكلة أو متهالكة، والدستور والنظام والقانون تم ركنها على الرف، وصارت المرجعية لقوة النفوذ، وشبكة الفساد وأرباب المال السياسي الفاسد المستولى عليه من الدولة، وأهدرت القيم، وصودرت الحريات، وضاقت مساحة الديموقراطية والرأي الحر.
وأمام هذا المشهد السياسي العام المريع والمحزن بدأت مؤسسات البلد تنهار وتتفكك واحدة تلو الأخرى، وكل يوم يمضي يأتينا بانهيار جديد، ويكون مركز ترتيب ذلك مجلس الأمة من خلال القوانين والأدوات البرلمانية المختلفة بكل أسف، وتقوم الحكومة، التي صارت مجموعة من الموظفين، بتنفيذ تدمير مؤسسات الدولة وتفكيكها، حتى وصل الحال إلى ما نحن عليه اليوم.وقد كانت انتخابات 5 ديسمبر 2020 فزاعة شعبية واعية ومبكرة لمنع انهيار الدولة، وعلى الرغم من عدم قدرة تكوين المعارضة السياسية في المجلس على إدارة المشهد السياسي نحو إصلاح مستحق، إلا أنها عطّلت كثيراً من جهود الانقضاض على مكونات الدولة والاستئثار بها واقتسامها، لكنها جوبهت بتعطيل وعرقلة كاملة للبلد من قبل السلطة وحكومتها وتحالفها البرلماني الهش، مما أوصل الجميع إلى مرحلة انسداد سياسي، وهو يحتاج إلى حل حقيقي وحوار وطني وحلول ناجعة لا ترقيعات ولا أجندات خاصة ومتناثرة.ومن هنا فإننا نرى أن البعض، ممن كان سبباً في شل البلد وإيذائه، يرى بمرحلة المساومات الحالية (وليس ما يسمى بالحوار)، مخرجاً لمأزقه (أو تكسبه) السياسي أو الانتخابي، سواء من هو حاضر في المشهد السياسي اليوم، أو من يرقبه ويغذيه بأفكاره وإسهامه، فكل من هؤلاء لا يفكر إطلاقاً في إخراج البلد من التراجع والفساد والأزمات، ولا في حلول لمشاكل المواطنين، بل في تحقيق مصالحه ومكاسبه الشخصية، وخروجه من المأزق الذي دخل فيه.وختاماً نقول كفى عبثاً بنظام الانتخاب والدوائر لخدمة شخص أو فئة، أو المزيد من الإرهاق والتمزيق السياسي، من خلال نظام انتخاب ودوائر وطنية على أساس غير جغرافي، ووفقاً ليوم الميلاد، وكفى تفصيلاً للدوائر بثوب وقياس فاسد مثل العشر دوائر بصوت واحد.كما آن الأوان ليفتح ملف العبث بالجنسية وتزويرها، ليتم تنقيتها من كل العبث الذي لحق بها قديماً أو حديثاً، ولنتحمل، بحق، مسؤولياتنا الوطنية، بعيداً عن المصالح الفردية لأشخاص، فحل أزمة البلد أهم من إخراج أفراد من مأزقهم السياسي وتكسبهم الانتخابي.
أخر كلام
أزمة بلد... أم أزمة أفراد
13-10-2021