هل دائماً الأصل في الأشياء الإباحة؟
يتمسك الكثيرون من أهل الرأي والمجتمع بالقاعدة الأصولية ذات المنبت الشرعي ومفادها أن "الأصل في الأشياء الإباحة"، فيتعلقون بها لإنقاذ ما يضعف من مواقفهم، متجاهلين مقاصدها وحدود تطبيقها، وفاتحين المجال أمام سيل من إجازة الممنوع واستسهال المسموح.معنى هذه القاعدة شرعاً أن الانتفاع بكل ما على الأرض وما استخلصه الإنسان منها هو مباح ما لم يقم دليل على تحريمه، وقد استند فقهاء الإسلام لتأسيس هذه القاعدة إلى عدد من الآيات القرآنية من مثل قوله تعالى في سورة الجاثية: "وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ"، كما ارتكزوا على بعض ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل "مـا أحـلَّ الله في كتابـه فهو الحلال، وما حَرَّم فهو الحرام، وما سكت عنه فهو عَفْوٌ". والإباحة وفق هذا المفهوم الشرعي تنقسم من حيث المنشأ الى قسمين، فإما تكون تعبيراً عن حكم الشارع للعباد بتخييرهم بين الفعل والترك كاليقظة والرقاد والطعام، وإما تكون بالرخصة الذي يمنحها العباد لبعضهم تصريحاً أو سكوتاً. وفي القانون، استخدمت هذه القاعدة بشكل رئيس للتعزيز من موقع الحقوق والحريات العامة، ففي القانون المدني مثلاً الأصل في العقود والشروط الجواز والصحَّة، ولا يبطل منها إلا ما ثبت بالدليل على عدم جوازه، وفي قانون العقوبات "لا جريمة ولا عقوبة الا بنص"، و"الأصل في الأفعال البراءة"، ومفاد ذلك أن كل فعل لم يجرّم بنص صريح لا يعتبر جريمة ولا تجوز المعاقبة عليه، وذلك حتى لو خرج على القواعد الأخلاقية وقيم المجتمع، ويتفرع عن ذلك أنه لا يجوز- تحت رقابة القضاء الدستوري- أن تتضمن التشريعات قرائن قانونية تتعارض مع أصل البراءة كما أنه "لا يلزم المتهم بإثبات براءته" ودائماً ما "يفسر الشك لصالحه"، حتى أنه يجوز الاستناد الى دليل استخلص بطريق غير قانوني للحكم بالبراءة بينما لا يجوز الاستناد الى الدليل نفسه للحكم بالإدانة.
إلا أنه لكل قاعدة استثناء في الشريعة وفي القانون، فعلى نقيض قاعدة الإباحة كأصل ثابت، تمسك بعض الفقهاء بأن الأصل في الأشياء هو التحريم حتى يسطع الدليل على الإباحة، ورغم أهمية قاعدة الإباحة في فقه التيسير، لم يُستسغ منطق إطلاقها، فأي إباحة شرعية حدّها القاعدة الأخرى "لا ضرر ولا ضرار"، فإذا كان الأصل أن الطعام مباح فإنه لا يجوز الإسراف فيه، وإذا كان المرء حراً في صرف أمواله، فإن الشارع لم يبح التبذير فيه حيث نبهنا عزّ وجلّ في سورة الأعراف "إنّه لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ".وفي استثناء واضح على قاعدة الإباحة، استنبط الفقه الإسلامي عدة قواعد معاكسة أخرى، نذكر منها: "الأصل في الأبضاع التحريم" و"الأصل في العبادات المنع" و"الأصل في الذبائح التحريم" ناهيك عن قاعدة "لا يصح التصرف في ملك الغير إلا بإذنه". وقد جاء في كتاب "معالم السنن" للإمام الخطابي: "وأما الشيء إذا كان أصله الحظر، وإنما يستباح على شرائط وعلى هيئات معلومة؛ كالفروج لا تحل إلا بعد نكاح أو ملك يمين، وكالشاة لا يحل لحمها إلا بذكاة، فإنه مهما شك في وجود تلك الشرائط، وحصولها يقيناً على الصفة التي جعلت علماً للتحليل كان باقياً على أصل الحظر والتحريم". أما في القانون، فالقاعدة في التفسير والاستنباط والقياس في النصوص الدستورية هي المنع والحذر، فالأصل أن أحكام الدستور لا تفسر إلا في أضيق الحدود، والثابت أيضاً أنه لا يجوز للقوانين أو للقرارات الإدارية أن تتجاوز حدود الدستور ولا أن تتعدى على أحكامه، ولو لم ينص على ذلك صراحة. فإذا ما أغفل الدستور الإشارة إلى حكم أو حق فليس بالضرورة أنه قرر إباحته، وإذا صمت عن منح صلاحية معينة لأي سلطة دستورية فلا يعني ذلك- بالمبدأ- جواز التوسع في إباحتها، وهذا ما ذهب إليه واقع التطبيق في الكويت عندما لم يعمل بمبدأ "التفويض التشريعي" الذي أشارت إليه- بصريح العبارة- المذكرة التفسيرية للمادة (50) من الدستور في حين أغفله نص المادة نفسها، فكان التحوّط سيد الموقف، فرجّح الرأي الغالب كفة السكوت في النص على كفّة الصراحة في التفسير، فأخذ بعدم الإباحة كأصل. من جانب آخر، ورغم أن الأصل هو حرية القول والفعل، فإن حرية المرء تقف عند حدود حرية الآخرين، فينبذ كل قول أو تصرف فيهما تعدّ على حقوق وحريات الآخرين ولو لم يرد نص صريح في تحريم أو تجريم ذلك، واستتباعاً لهذا المنطق يحظر على المحـامين والأطبـاء والموظفين إفشاء مـا علموا به عـن طريـق مهنـتهم أو صـفتهم ولـو بعـد انتهـاء الخدمـة أو زوال الـصفة، فالمبدأ هنا هو المنع، ولو سكت النص عن الحظر أو التقييد.خلاصة القول أن التعامل مع قاعدة "الأصل في الأشياء الإباحة" يجب أن يكون ضمن حدود المنطق والشرع والقانون والأخلاق، وإلا فتح مجال الاجتهاد الذي لا يحترم الثوابت المشروعة والقيم الثابتة، وتضاربت الآراء المستفيدة من غياب النص الصريح.* كاتب ومستشار قانوني.