يظن الفنزويليون العاديون أن أداء النظام في بلدهم كارثي على أقل تقدير، فقد اختفت الطبقة الوسطى التي كانت كبيرة وقابلة للنمو، فأصبح 96% من الشعب تحت خط الفقر، وفي الوقت نفسه، انهار الاقتصاد بطريقة دراماتيكية، فتراجع الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد بنسبة الربع تقريباً، مقارنةً بما كان عليه قبل بدء الأزمة في عام 2013، ووفق بعض التقديرات، انكمش الاقتصاد الفنزويلي منذ عام 2012 أكثر من أي اقتصاد آخر في زمن السلم.خلال فترة معينة، بين العامين 2017 و2018، افترض النظام الفنزويلي أنه يستطيع الالتفاف على العقوبات النفطية المفروضة عليه عبر الاتكال على قوى خارجية صديقة، فكان المسؤولون في فنزويلا يأملون تدخّل شركات النفط الصينية والروسية لتقوية القطاع المنهار، لكن بعد سلسلة من المفاوضات الطويلة والشاقة، رفضت الشركات الصينية والروسية معاً عروضاً باستلام مجمع «أمواي كاردون» لمصافي تكرير النفط، حيث تصل سعة الإنتاج يومياً إلى مليون برميل، واليوم أصبح هذا الموقع جامداً، وبات نقص البنزين واقعاً يومياً بالنسبة إلى ملايين الفنزويليين الذين يضطرون للانتظار في الطوابير لأربعة أيام أحياناً لتلقي إمدادات الوقود النادرة وملء خزاناتهم، فمنحت الحكومة تراخيص مربحة للشركات الأجنبية كي تستغل حقول النفط المهجورة، لكن عادت شركات النفط هذه وغادرت البلد واحدة تلو الأخرى في نهاية المطاف، لأن مهمة تجديد الإنتاج أصبحت مستحيلة، فالمأساة الحقيقية تكمن في وجود أكبر مخزون نفطي عالمي في فنزويلا.
يتّضح حجم الانهيار الاقتصادي من خلال الانحطاط النقدي، فبعد تسجيل ثاني أطول فترة من التضخم المفرط على الإطلاق، تستعد الحكومة لتخفيض قيمة عملة البوليفار الضعيفة أصلاً، حيث يحصل هذا النوع من التعديل للمرة الثالثة منذ عام 2008، ونتيجةً لذلك، ستصبح ورقة نقدية واحدة من عملة البوليفار في عام 2022 مساوية لمئة تريليون بوليفار في عام 2008.في ظل تراجع قيمة البوليفار الفنزويلي، تخلى الفنزويليون عن عملتهم تباعاً وفضّلوا التعامل بالدولار الأميركي أو البيزو الكولومبي أو الريال البرازيلي في المناطق الحدودية المتاخمة لتلك الدول، إذ يحصل ثلثا التعاملات اليوم بالعملة الأجنبية، وأدى اللجوء إلى الدولار الأميركي إلى إنشاء وضع طبيعي وهمي في المناطق الميسورة سابقاً في كاراكاس، لكنه مجرّد سراب حيث يكشف استطلاع جديد أن 40% من الأُسَر فقط تتلقى تحويلات بالعملة الصعبة من أقاربها في الخارج، وتضطر النسبة المتبقية لاستعمال عملة البوليفار، ويواجه الشعب أيضاً أزمة غذائية متواصلة، وقد وصلت معدلات سوء تغذية الأطفال إلى 36% وفق منظمة الصحة العالمية، ولا يوحي الوضع بأي تحسّن قريب.هذه البنية الاقتصادية التي ترتكز على الشرخ القائم بين معسكرٍ يملك العملة الصعبة وآخر يفتقر إليها تُذكّرنا بكوبا التي استعملت لفترة طويلة عملتَين متوازيتَين: واحدة قابلة للتحويل إلى عملة أجنبية، وأخرى غير نافعة، فقد ظهرت ديناميكية مشابهة في فنزويلا، حيث يعيش مالكو الدولارات حياةً مشابهة للدول الأخرى، في حين يواجه المعسكر الذي يفتقر إليها أعلى درجات الحرمان، لكن بنية نظام فنزويلا تشبه حكومة كوبا أيضاً، إذ تعمد النخبة الوحشية والمسلحة هناك إلى نهب جميع مصادر العملات الأجنبية وتقمع كل من يجرؤ على معارضتها عن طريق العنف.تبقى كوبا أقوى وأهم حليفة لنيكولاس مادورو، حيث كان رفض الصين وروسيا مساعدة مادورو كفيلاً بإقناعه بهذه الحقيقة على الأرجح، ويعتبر البلدان فنزويلا المعادية للولايات المتحدة ورقة جيوسياسية مفيدة، وقد قدّما في الماضي تغطية دبلوماسية ومساعدات أمنية إلى النظام، لكن أياً منهما لا يهتم بتقديم موارد نادرة إلى بلدٍ يعتبرونه فاشلاً في منطقة البحر الكاريبي. كان حلفاء آخرون لفنزويلا أكثر منفعة لها، فقد أرسلت إيران وتركيا مثلاً شحنات بنزين وبعض السلع التامة الصنع إلى البلد أو شاركتا في «إعادة تدوير أو تبييض» الذهب الفنزويلي، لكن يبقى أي تحالف واسع مع هاتَين الحكومتَين البعيدتَين محدوداً، كما أن طهران وأنقرة لا ترغبان في إنقاذ كاراكاس من كارثتها الاقتصادية وتعجزان عن ذلك أصلاً.لهذا السبب، تبقى كوبا حليفة مادورو الحقيقية والثابتة، فقد كانت علاقة النظام الدكتاتوري اليساري اللاتيني مع النظام الفنزويلي وثيقة لدرجة ألا تفيها كلمة «التحالف» بحقّها، عملياً تخضغ فنزويلا لشكلٍ ضمني من الاحتلال الكوبي ويبدو أن مادورو يثق بالمسؤولين الكوبيين أكثر من المسؤولين المحليين في بلده: تتولى شخصيات كوبية، لا فنزويلية، توظيف عملائها الاستخباريين داخل القصر الرئاسي، مما يعني أن هافانا تعرف ما يحصل في فنزويلا أكثر من معظم المسؤولين الفنزويليين، ويبدو أن مادورو يعطي الأولوية لحاجات كوبا أكثر من فنزويلا، وقد اتّضح ذلك بعدما تابعت فنزويلا مدّ كوبا بمصادر الطاقة على مر هذه الأزمة، مع أن السائقين المحليين لا يجدون الإمدادات التي يحتاجون إليها في محطات البنزين.
مشكلة مستعصية
ما الذي يُفترض أن يفعله العالم، والولايات المتحدة تحديداً، لمواجهة هذا الوضع المريع؟ وكيف يمكن حل مشكلة شائكة مثل فنزويلا؟تقضي الخطوة الأولى باقتناع الجهات المعنية بأن المنطق السياسي الطبيعي لا أهمية له عند التعامل مع دولة مافياوية، حيث يحمل إصرار المجتمع الدولي على التفاوض لإجراء انتخابات حرّة ونزيهة نوايا حسنة لكنه يبقى مُضلِّلاً، سيكون دخول السجن الخيار البديل للتمسك بالسلطة من جانب أنصار النظام، بمن في ذلك مادورو المتّهم في الولايات المتحدة بتهريب المخدرات. لا يستطيع النظام أن يقدّم للمعارضة الفرصة التي تريدها للإطاحة به عن طريق الانتخابات ولن يفعل ذلك لأي سبب.لكن لا يعني ذلك أن النظام سيبقى محصّناً ضد الضغوط الخارجية، ففي المقام الأول، يجب أن تعترف واشنطن بضعف المعارضة التي تعجز حتى هذه المرحلة عن طرح أي تحديات واقعية على سلطة النظام؛ لذا يُفترض أن تُصِرّ الولايات المتحدة على إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإعادة ترسيخ حرية الصحافة والتجمّع مقابل تخفيف العقوبات الفردية، ولتوسيع النفوذ الأميركي عند تطبيق هذه الاستراتيجية، يجب أن تُحسّن واشنطن أداءها لإقناع ديمقراطيات مثل إيطاليا وإسبانيا بفرض عقوبات ضد شخصيات تابعة للنظام، وتجدر الإشارة إلى أن شخصيات مرتبطة بالنظام وجدت ملاذاً آمناً لها في الفِلَل والقصور الإيطالية والإسبانية التي يملكونها اليوم وفي البنوك الإيطالية والإسبانية والمؤسسات المالية أيضاً.ستكون كوبا لاعبة أساسية في أي حل مستقبلي نظراً إلى مكانتها الاستثنائية في فنزويلا، فلا يمكن تصوّر أي نوع من الصفقات من دون موافقة النظام الكوبي. بعبارة أخرى، يمكن إيجاد مفتاح الحل لأزمة فنزويلا في هافانا أكثر من كاراكاس، وطالما تبقى كوبا دولة دكتاتورية، ستبقى فنزويلا كذلك على الأرجح.في نهاية المطاف تهتم الديمقراطيات حول العالم، وفي أميركا اللاتينية تحديداً، بالحفاظ على نسخة متماسكة وسلمية من فنزويلا، ويجب أن يبقى البلد مستقراً بما يكفي منعاً لتصدير مشاكله إلى الخارج، ويُفترض أن تشكّل الحرب الحدودية التي شهدتها ولاية «أبوري» في الربيع الماضي تحذيراً آخر لإقناع الجميع بعدم الاستخفاف بالوضع. لقد أدى تفريغ الدولة الفنزويلية واستبدالها ببنية مافياوية إلى تأجيج مظاهر الفوضى المزمنة، وقد تُمهّد هذه الظروف لانتشار العنف على أوسع نطاق.وفق سيناريو مستقبلي محتمل، قد تنشأ صراعات بين رؤساء العصابات المحسوبين على مادورو، فتتحول حروب العصابات إلى سفك دماء حقيقي. سيبذل مادورو وداعموه الكوبيون قصارى جهدهم طبعاً لاحتواء الفوضى، لكن لن يكون نجاحهم مضموناً بأي شكل، فهذا المستقبل يشبه إلى حد كبير الصراعات التي شهدتها فنزويلا خلال القرن التاسع عشر، حين كان رئيس ظاهري في كاراكاس يكتفي بالسيطرة على العاصمة والجمارك المحلية، في حين ينتشر أمراء الحرب في معظم المناطق ويحكمون المدن والبلدات الأخرى بلا رادع، لكن لم يكن هذا الوضع ثابتاً يوماً، فعلى مر القرن التاسع عشر، حاول أمراء الحرب في مناسبات متكررة أن يقتحموا العاصمة ويتسلموا السلطة بأنفسهم، فنجحوا حيناً وفشلوا أحياناً، لكن لطالما كانت النتائج دموية.يفترض سيناريو آخر أن يتابع مادورو السيطرة على أتباعه خلال فترة كافية لمنع أي اقتتال مباشر بين الطرفَين، وفي ظل غياب الديموقراطية والإصلاح السياسي والعجز عن تلقي الرساميل العالمية وإنتاج العملات الأجنبية، يبدو أن هذا المسار هو الحل الوحيد لتحويل فنزويلا إلى نسخة من كوبا حيث سيتمسك النظام بالسلطة وسيتكل على معاناة شعبه، وهو احتمال بائس بمعنى الكلمة.قد تبدو هذه السيناريوهات قاتمة وغير محبذة، لكن لا شيء يدفعنا إلى توقّع احتمالات أفضل للأسف، ويبقى احتمال أن يقتنع المجرمون في النظام الفنزويلي بتحمّل مسؤولية الخراب الذي أحدثوه مجرّد أمل مستبعد ولا يمكن اعتباره أساساً مناسباً للخطوات الدبلوماسية المرتقبة، فقد كان هذا النوع من الآمال كفيلاً بتشويه صناعة السياسة في الولايات المتحدة وأماكن أخرى لوقتٍ طويل، ومن الواضح أن الظروف التي تواجهها فنزويلا مريعة، لكن يجب أن يتعامل معها الجميع كواقع لا مفر منه.