من المصادفات المؤلمة أن منطقة "عين الرمّانة" في ضواحي بيروت قد شهدت في عام 1975 أولى شرارات الحرب الأهلية اللبنانية، وها هو الشعب اللبناني يعيش قلقاً متزايداً من أن تنطلق من الأحداث التي شهدتها قبل أيام المنطقة نفسها شرارة الانفلات الأمني في القرن الحادي والعشرين! وكأن المثل القائل بأن "القصة مش رمانة، القصة قلوب مليانة" ينطبق حرفياً على الوضع اللبناني باللفظ والدلالات!ومن الأقدار الصعبة أن تمر هذه الأحداث بعد أيام من ذكرى انتفاضة "17 تشرين/ أكتوبر" التي استبشر بها الكثير من الراغبين في بناء وطن حقيقي قبل أن تنجح في إفشالها الطبقة السياسية التي لم تتوان منذ اللحظة الأولى لانطلاقتها في أن تنهال عليها بكل اتهامات العمالة تارة، والتعطيل طوراً، و"الزعرنة" ممن يملك هو هذه الصفة، ورغم ذلك نجحت (الثورة)- ولعل ذلك بلسم لجرح الخيبة الكبرى- في هزّ عروش السياسيين وكسر حاجز الخوف في قلوب غير المنتمين حزبياً لأي من أركان السلطة.
ما شهدته منطقة "الطيّونة" والشارع الفاصل بين منطقة "الشيّاح" ومنطقة "عين الرمّانة" من اشتباكات مسلّحة ودامية لم يكن بالطبع وليد الساعة، بل هو نتيجة شد عصب سياسي ومذهبي متراكم ومتصاعد لا يخفى على المسؤولين عنه أنه سيؤدي بأقل الاحتمالات الى مخزون وفير من الأحقاد والذي من السهل استغلاله في الميدان أو استخدامه في صندوق الاقتراع.لقد تحوّلت قوة "حزب الله"، محلياً وإقليمياً، الى أمر واقع قادر على تغيير أي قرار أو اتجاه– شعبي أو رسمي- يعترض سياسته أو لا يتوافق مع قناعاته أو يشكل بوجهة نظره خدمة للمخطط الصهيو-أميركي ضد "جبهة الممانعة"، وبالمقابل أصبح الحزب شمّاعة جاهزة و"جسماً لبّيساً" لكل الاتهامات والتوصيفات التي يسعى معارضوه أن يبرزوها أو يلصقوها به لتشويه صورته أو لتحييد الضوء عن إخفاقاتهم الكثيرة وفشلهم في إقناع الجمهور، وفي هذا الاتجاه أو ذاك تشكّل اللغة الطائفية والمذهبية أسهل الأدوات التي يمكن استخدامها لتحقيق انتصارات وهمية أو مكاسب لحظية تطيح في المحصلة النهائية بكل مقومات الوطن والوطنية.أثبتت الأحداث الدموية الأخيرة أن الأحزاب في لبنان، مهما اختلفت ألوانها أو شعاراتها، هي التي تملك أدوات الشارع القادرة على تحديد مصير الوطن، إذ إنها أقوى من الدولة وأكثر هيبة من القوى الأمنية وأسطع حضوراً من كل مبادئ الديموقراطية والدستور وفصل السلطات، فما تريده الرصاصة وما يوجّه به الخطاب المذهبي لا يقف في وجهه أي منطق سياسي ولا مناعة أخلاقية ولا حوار حضاري، فالقلوب "المليانة" بالشحذ الوجداني والمشحونة بالحقد التاريخي تجعل إطلاق الرصاص وسيلة "مبررة" لمجابهة التظاهر، وتجعل الاستخفاف بمقام الدولة وهيبة مؤسساتها أمراً سهلاً لدى كل الراغبين في ذلك والساعين إليه.المطمئن الوحيد في كل ما يتخبط به الوضع الراهن أن "حزب الله"، وهو الأقوى في معادلة العديد والعدّة، لا يريد التورط بحرب أهلية قد تؤدي الى ضرب صورته كحزب مقاوم، وتجرّه من غير أن يستطيع إيقاف ذلك نحو الانزلاق إلى وحول الاقتتال الداخلي الذي يلهيه عن قضاياه الإقليمية الكبرى، لذلك يعمل الحزب بكل وسائله التنظيمية وأدواته الإعلامية واتصالاته السياسية أن يفهم الجميع باللين الذي يتقن نسج خيوطه، وبالقوة التي يحسن استخدام جرعاتها أنه قادر- في اللحظة التي يراها مناسبة وبالطريقة الأقل ضرراً عليه- على إسكات أو ترويض كل من يشك في أنه متربص به أو عامل على إضعافه أو أنه بالفعل متماه أو متعاون مع أهداف العدو في الداخل اللبناني. صحيح أن حزب الله قلق من أن يصبح فائض القوة لديه نقطة ضعف تتسرب من خلالها كل مخططات خصومه وأعدائه في الداخل والخارج، لكن الصحيح أيضاً أنه- حتى اللحظة- يقرأ بهدوء حقائق التاريخ وتشابكات الواقع، ويتروى في رسم وتنفيذ رؤيته المستقبلية. من جهة أخرى، إن ما يحصل في لبنان من انهيار قيمي واهتراء سياسي وتفتت بنيوي، هو نتيجة حتمية للحرب الأهلية وما تبعها من سياسة تقاسم السلطة والتكالب على المناصب التي تؤمن كل أسباب ووسائل الثروة المالية والترضيات الشعبية والولاءات السياسية، فلم يعد هذا الوطن البائس ولا الدولة المتحللة بحاجة لمخطط من عدو أو لتواطؤ من مستفيد خارجي لكي يزداد تفتتا وتخلفا، فالكل- حكاماً وحزبيين- يتشاركون في ارتكاب الموبقات بحق الوطن وأجياله السابقة واللاحقة، والكل من المنتمين الى حزب "الكنبة" مساهمون في ذلك من خلال خمولهم وإحباطهم وتقاعسهم عن البدء في أولى خطوات التغيير الإيجابي المتمثلة بصندوق الاقتراع.كل ما نسمعه من حدّة في الموقف السياسي وما نشهده من حملات تخوين لغير المنتمين حزبياً ولا سيما الفاعلين منهم في انتفاضة "17 تشرين/ أكتوبر" لا يعدو أن يكون استعداداً وتحضيرا للانتخابات البلدية، النيابية والرئاسية المرتقبة، فمن الآن ولحين اتفاق الطبقة السياسية على إجراء الانتخابات أو على الإبقاء على وضع تقاسم السلطة فيما بينها، ستشهد الساحة الإعلامية والميدانية كل وسائل التحريض الطائفي وسنسمع كل نغمات الاتهام المتبادل بالفساد والتعصب والمذهبية، وستستخرج من دهاليز الذاكرة مساهمات كل منهم في التاريخ الحافل بالفتن والقتل والسرقة. القاسم المشترك في كل خطابات الطبقة السياسية هو التصويب العمدي والممنهج على مكونات "17 تشرين/أكتوبر" التي يخشون من تمكنها من إحداث تغيير، حتى لو كان جزئيا أو بسيطا في المشهد السياسي والانتخابي القادم.* كاتب ومستشار قانوني
مقالات
«قلوب مليانة»
18-10-2021