أثار الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان والعراق توقعات بأن واشنطن تعتزم الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط بأسرها، بعد أن تسببت الحروب التي خاضتها في دول بالمنطقة تحت ذرائع مختلف، في استنزافها معنوياً ومادياً وكلفتها عدداً كبيراً من أرواح الجنود الأميركيين، دون أن تحقق ما كانت تصبو إليه.وهذه النتيجة، بالإضافة إلى رغبة واشنطن في التركيز على تحجيم قوى أخرى، تعتبرها تهديداً كبيراً لهيمنتها، وبالتحديد الصين وروسيا، جعلتها تفكر بعيداً عن منطقة الشرق الأوسط إلى حد ما، لتركيز الموارد على مجابهة تلك التحديات، مع الاحتفاظ قطعاً بسبل لحماية مصالحها في المنطقة.
ويقول الباحث والمحلل علي دميرداش، الحاصل على دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة كارولينا الجنوبية، في تقرير نشرته مجلة «ناشيونال إنتريست»، إنه ربما لا شيء يجسد الفشل الذريع لانخراط واشنطن في أفغانستان منذ عشرين عاماً، وعدم كفاءتها الأوسع في بناء الدول بالشرق الأوسط من صور الأفغان المتشبثين بطائرات (سي 17) التابعة للقوات الجوية الأميركية قبل أن يسقطوا من ارتفاع مئات الأقدام في الهواء ليلقوا حتفهم. ولم يكف مبلغ 3.2 تريليونات دولار من أموال دافعي الضرائب الأميركيين ولا تضحيات أكثر من 2400 جندي، للتغلب على ضخامة الاختلافات العرقية والقبلية والدينية اللازمة لبناء دولة أفغانية ديموقراطية وصديقة للولايات المتحدة.ويضيف دميرداش الذي عمل أستاذاً للشؤون الدولية في كلية تشارلستون الأميركية من 2011 إلى 2018، أن العراق يعد قصة مماثلة، فبعد إنفاق تريليوني دولار والتضحية بأكثر من 4500 جندي أميركي، تم تسليم العراق إلى إيران على طبق من فضة. بمعنى أنه من خلال إطاحة صدام حسين، العدو اللدود لإيران، أنجزت الولايات المتحدة ما لم تتمكن إيران من تحقيقه خلال ثمانينيات القرن الماضي، ولم تكن طهران أبداً صاحبة نفوذ مؤثر في السياسة العراقية كما هي الآن.وصوت البرلمان العراقي على انسحاب القوات الأميركية، وتقوم الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران بشكل روتيني بشن هجمات بالصواريخ وقذائف الهاون والطائرات بدون طيار على القوات الأميركية المتمركزة في القواعد العسكرية العراقية في محاولة واضحة لإجبارها على الخروج. وعلاوة على ذلك، لم يمهد الغزو الأميركي للعراق الطريق أمام تمدد إيران في العراق وسورية ولبنان فحسب، بل سهّل أيضاً استغلال روسيا والصين لصناعة النفط العراقية ذات الربح الوفير. وأصبحت روسيا الآن المورد الرئيسي للأسلحة للعراق، بحسب دميرداش.ويضيف الكاتب، أن النمط نفسه يتكرر في سورية، حيث يعتقد أنه تم نشر ما يقدر بنحو 900 جندي أميركي. وكما هو الحال في أفغانستان والعراق، ورغم إنفاق مليارات الدولارات، فشلت واشنطن بعناد، في رؤية عدم جدوى جهودها لبناء الدولة في سورية. وببساطة، تحول الحقائق العرقية والقبلية والدينية على الأرض، فضلاً عن وجود القوى الإقليمية، روسيا وتركيا وإيران، دون جهود واشنطن لإنشاء دولة كردية صديقة للولايات المتحدة في المنطقة. وبدلاً من الحفاظ على مسعى عقيم، من الأفضل للولايات المتحدة أن تحاول خفض حجم خسائرها.ويقول دميرداش، إن الولايات المتحدة لديها العديد من الإنجازات العظيمة، لكن بناء الدول ليس أحدها. فمن فيتنام إلى أفغانستان إلى العراق، أثبتت واشنطن مراراً أن بناء الدول ليس المجال الذي تكمن قوتها فيه. وأشار إلى أن عجز أميركا عن فهم آلاف السنين من الديناميكيات الاجتماعية والقبلية القديمة، التي تحدد هوية الشرق الأوسط، واعتمادها المفرط على الجيش الأميركي، الذي لم ينج من المزيد من الدمار والفوضى، ودعمها المتهور والمندفع للوكلاء الذين يخلون بالتوازن الإقليمي، كلها عوامل ساهمت في فشل أميركا في إحراز تقدم في الشرق الأوسط.وخلص دميرداش إلى أنه منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، أهدرت الولايات المتحدة الثلاثين عاماً الماضية في التعثر بين نهري الفرات ودجلة في العراق وفي جبال أفغانستان، ومطاردة شبح الإرهاب الذي لم يؤدّ إلا إلى استنزافها ماليا، ليحاصر الشعب الأميركي بـ«َالإجهاد الأبدي بسبب الحروب»، وسمحت واشنطن للصين في نفس الوقت بأن تصبح منافساً خطيراً للهيمنة العالمية للولايات المتحدة. وبدلاً من البقاء على هذا المسار وتدوير عجلاتها في سورية، سيكون من الأفضل لواشنطن تحويل انتباهها إلى مسائل أكثر أهمية، كما يتعين عليها السماح للقوى الإقليمية بمعالجة مشكلة لم تكن أبداً تقع ضمن مسؤوليتها.
طبول معركة تركية ـــ كردية
تحت عنوان «تشتت كردي»، كتب مدير مركز «دراسة تركيا الجديدة»، يوري مواشيف، في صحيفة «إزفيستيا» الروسية، حول استعداد أنقرة لعملية عسكرية جديدة في سورية.وجاء في المقال: «يمكن أن تبدأ عملية القوات المسلحة التركية في شمال شرق سورية، بالمعنى الحرفي للكلمة، في أي لحظة. على أي حال، هذا ما يمكن استنتاجه من محتوى المنشورات، التي أسقطتها، في 18 أكتوبر، طائرة تركية مسيرة فوق بلدة تل رفعت، معقل وحدات حماية الشعب الكردي، المعادية لأنقرة».وأضاف المقال: «في غضون ذلك، ذكرت صحيفة ميلييت التركية، أن قوات المعارضة في إدلب، والتي تستعد أيضاً للمشاركة في العملية ضد وحدات حماية الشعب الكردية في تل رفعت، تشتبك مع جيش الأسد. والحديث يدور عن استخدام الأسلحة الثقيلة، كما تقول الصحيفة». وتابع: «انطلاقاً مما يجري، يمكن افتراض التالي: لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن سورية في القمة الأخيرة بين الرئيسين الروسي والتركي، فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان، في سوتشي. إنما، على الأرجح، اتفق الطرفان على التوصل إلى اتفاق، وهو أمر غير قليل الأهمية، نظراً إلى عدد اللاعبين المهتمين في المنطقة والمتغيرات السياسية الدولية الأخرى».وأشار إلى أنه «مع ذلك، بالنسبة لتركيا وقيادتها، وصل الوضع إلى حد يصعب معه التراجع وفقدان ماء الوجه. يمكن تسويغ أفعاله أنقرة جزئياً من خلال أنشطة قوات سورية الديمقراطية، المتحالفة مع وحدات حماية الشعب، والمدعومة من الولايات المتحدة. فواشنطن تزودهم بالأسلحة وتدربهم، وإدارة الرئيس جو بايدن لا تنوي التخلي عن هذا الدعم. وقد أكد الرئيس التركي إردوغان مراراً أن هذه هي المشكلة الرئيسية التي تهدد العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة. وتصدر عن موسكو، بشكل ممنهج، تصريحات بأن أنشطة واشنطن مدمرة وتزيد الوضع المعقد هناك أصلا تعقيداً. وعلى وجه الخصوص، الحديث يدور عن قاعدة التنف، التي، كما في السابق، لا يمكن للمسؤولين الروس تجاهلها».وختم : «في هذا السياق، لا بديل أمام أنقرة عن إقامة حوار مع دمشق. والأمر نفسه ينطبق على التقيد الصارم بالالتزامات التي قطعتها على نفسها بخصوص إدلب».