هل توقف الولايات المتحدة تدخّلها في الشرق الأوسط؟
تُعتبر إيران والمملكة العربية السعودية من ألد الأعداء في الشرق الأوسط لدرجة أن يدعم كل بلد منهما أطرافاً متناحرة في عدد من الحروب الإقليمية بالوكالة، لكنهما شاركتا رغم ذلك في أربع جولات من المحادثات الدبلوماسية خلال الأشهر الأخيرة، ويقول المسؤولون إن هذه المحادثات تسير على الطريق الصحيح وتتجه نحو تهدئة الاضطرابات السائدة.يمكن استخلاص درس مهم من هذا التطور: في بعض مناطق العالم، قد يكون فك ارتباط الولايات المتحدة عن الاشتباكات السياسية والعسكرية قوة إيجابية لإرساء السلام والاستقرار، لكن هذه المقاربة تتعارض مع الفكرة التقليدية التي تعتبر الوجود الأميركي ضرورياً للحفاظ على تماسك المناطق، في حين يُخلّف الانسحاب الأميركي فراغاً في السلطة، مما يؤدي إلى تأجيج الاضطرابات واندلاع الحروب.يقول رعد القادري، مدير "مجموعة "أوراسيا" الدولية التي تُعنى بتقييم المخاطر: "الولايات المتحدة معتادة على اعتبار نفسها جهة لا غنى عنها لحماية الاستقرار حول العالم، مع أن تدخّلها هو الذي يزعزع استقرار المناطق لأنه يصبح جزءاً من المعادلة المحلية".
أدرك الرئيس باراك أوباما هذه النزعة على ما يبدو واتخذ الخطوات اللازمة لتصحيحها خلال ولايته الأولى، فحاول الترفع عن الصراعات الطائفية بين القوى الشيعية والسنية في الشرق الأوسط، وتعامل مع كل قوة منها بطريقة فردية، انطلاقاً من المصالح الأمنية الأميركية التي لم تتأثر بالخلافات الدينية القديمة، لكن عندما شارك أوباما في المفاوضات المرتبطة بالاتفاق النووي الإيراني، تقرّب من السعوديين لطمأنتهم والتأكيد على عدم تخلّيه عن السعودية ودول الخليج لصالح إيران وميليشياتها، ولإثبات موقفه زادت مبيعات الأسلحة للسعوديين وأغفل الرئيس الأميركي استعمال تلك الأسلحة ضد المتمردين المدعومين من إيران في اليمن، لكن أدت هذه الخطوة إلى تصعيد تلك الحرب. لم يكن أوباما أول رئيس أميركي يحاول التهرب من الصراعات الدموية في المنطقة قبل أن ينجرّ إليها مجدداً، لكن أوباما وجّه رسالة مفادها أن مشاركة الولايات المتحدة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، وقد أساء البعض فهم هذه الفكرة حينها، وجاء الرئيس جو بايدن الآن ليعيد التأكيد على المقاربة نفسها بأوضح الطرق. يعارض بعض النقاد هذه النزعة على اعتبار أن النفوذ الأميركي سيتراجع في المنطقة مقابل وصول قوى أخرى، مثل روسيا والصين، لأخذ مكانها، لكن هل ستتضرر المصالح الأمنية الأميركية فعلاً؟ وهل ستُحرَم الولايات المتحدة من نفط المنطقة إذا احتاجت إليه في مرحلة معينة من المستقبل؟ وهل سيرفض المعنيون المبالغ النقدية بالدولار الأميركي؟ بعيداً عن هذه المخاوف، تكشف المحادثات الإيرانية السعودية جانباً أكثر إيجابية، ربما لم يقتنع السعوديون بالتطمينات الأميركية غير الجديرة بالثقة، فأدركوا حقيقة الوضع الجديد وفهموا أنهم لا يستطيعون الاتكال على قوة خارجية لإنقاذهم من الأزمات المقبلة، وهذه الظروف قد تُحوّل السعودية إلى قوة إقليمية أكثر مسوؤلية. لكن حتى في أوساط أقدم الحلفاء، لم تعد الولايات المتحدة تملك النفوذ الذي كانت تتمتع به في الماضي. في وقتٍ سابق من هذه السنة، حاولت إدارة بايدن إقناع الأوروبيين بتقليص علاقاتهم الاقتصادية مع الصين، فرفض عدد من هؤلاء الحلفاء، لا سيما ألمانيا وفرنسا، لأن هذه الدول سبق أن أقامت علاقات قوية مع الشركات الصينية ولا تريد نشوء حرب باردة جديدة مع بكين، لذا اضطر وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، للتراجع وطمأن الحلفاء إلى أن بايدن لن يُخَيّرهم بين الولايات المتحدة والمعسكر الآخر.في الماضي، أدى انتصار الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة إلى إضعاف نفوذها في المرحلة اللاحقة، وكانت الدول تتجاوب مع مطالب واشنطن في السابق خوفاً من تقوية الاتحاد السوفياتي، لكن بعد انهيار الاتحاد وانتهاء الحرب الباردة، أصبحت تلك الدول نفسها أمام ثلاثة خيارات: الرضوخ للولايات المتحدة، أو الاصطفاف مع طرف آخر، أو إطلاق مسار يتماشى مع مصالحها الخاصة. توقّع عدد من المسؤولين الأميركيين توسّع النفوذ الأميركي بدرجة غير محدودة غداة انتصارهم على الاتحاد السوفياتي، لكنهم فوجئوا بحصول العكس ولم يتكيفوا بعد مع العالم الجديد.لم تعد الولايات المتحدة تستطيع حراسة العالم اليوم، ويتقبّل جميع المحللين تقريباً هذا الواقع، بما في ذلك مؤيدو استعمال القوة، لكن يميل السياسيون الأميركيون حتى الآن إلى التصرف وكأنّ الوضع لم يتغير. باختصار، من الأفضل أحياناً أن ينسحب البلد من أخطر النقاط الساخنة في العالم!* فريد كابلان