لم يكن القرن الحادي والعشرون إيجابياً بالنسبة إلى أسطول البحرية الأميركية الواسع، ففي محاولة للتفوق على القوات البحرية الأخرى عبر طرح تصاميم وتقنيات ثورية، حققت البحرية الأميركية نتيجة معاكسة وأصبحت متأخرة مقارنةً بغيرها، فهي تُشَغّل سفناً تجد صعوبة في «العوم والتحرك والقتال»، وهي أبسط وظائف السفن الحربية البدائية، وفي غضون ذلك، انحسرت فئات السفن المستعملة، وتوقف استخدام عدد كبير منها في مرحلة مبكرة، وتنتظر سفن أخرى إصلاحها منذ سنوات، بما في ذلك المجموعات التي يُفترض أن تشكّل جزءاً أساسياً من الأسطول الراهن والمستقبلي.

تبدو الإخفاقات هائلة إذاً والتفاصيل كارثية بالنسبة إلى دافعي الضرائب والمخططين في البحرية الأميركية: كان يُفترض أن يقدّم برنامج «سفن القتال الساحلية» طريقة فاعلة لتقريب المعارك من سواحل الدول العدائية، فقد افترضت البحرية الأميركية أنها ستحصل على سفن مشابهة لتلك التي يملكها الجيش السويسري، تزامناً مع تعديل المهام عند الحاجة، لكن يفتقر هذا البرنامج إلى القوة التدميرية الكافية، وتشوبه نقاط ضعف كبرى على مستوى الدفاع ويتعرّض لأعطال ميكانيكية دائمة، حيث تضاعفت تكاليف برنامج «سفن القتال الساحلية» خلال مرحلة البناء، وبدأ سلاح البحرية يتخلى عن السفن الرئيسة بعد 12 سنة فقط من تشغيلها.

Ad

في آخر عشرين سنة، نشر «مكتب محاسبة الحكومة» نحو 40 تقريراً أو شهادة حول أنواع السفن التي تطرح إشكالية، لكن لم يتنبّه المعنيون إلى المشكلة العامة وأصلها وأعراضها المشتركة فقد أدت هذه الإخفاقات مُجتمعةً إلى خسارة جيل كامل من السفن، مما يعني أن البحرية الأميركية ليست جاهزة بأي شكل، مع أن الصين سبق أن بَنَت أكبر أسطول في العالم، وبما أن التوتر سيتصاعد مع الصين على الأرجح وقد يتحول إلى صراع مباشر في مرحلة معينة، يجب أن تتخذ الولايات المتحدة الخطوات اللازمة لفهم أسباب هذه الفوضى.

كانت الإخفاقات في المنصات والتقنيات الجديدة عبارة عن أخطاء غير مقصودة وذاتية الصنع، فهي لم تحصل حين كانت الولايات المتحدة تحاول مضاهاة أحد الخصوم أو مواكبة قوة أخرى، بل إنها نشأت جزئياً نتيجة الغطرسة الأميركية، أي القناعة الراسخة بقدرة البلد على طرح ابتكارات سريعة.

تواجه البحرية الأميركية اليوم مطالب متناقضة، فمن جهة، يطلب منها الكونغرس وأطراف أخرى التنبه إلى الدروس المستخلصة من الكوارث الأخيرة وتبنّي مقاربة تدريجية لتصميم السفن والتكنولوجيا وشرائها واختبارها، لكنها تواجه من جهة أخرى ضغوطاً هائلة من الكونغرس كي تُوسّع قوتها القتالية في أسرع وقت ممكن. قد يفسّر هذا الوضع التناقض الواضح في الخطط البحرية حتى الآن.

طوال خمس سنوات، التزمت البحرية الأميركية بالنظام والقوانين لتوسيع أسطولها كي يشمل 355 سفينة، وفي منتصف 2021، أعلنت إدارة بايدن إلحاق هذا العدد بمجموعة أخرى تشمل بين 321 و372 سفينة مأهولة، وفي الوقت نفسه، دقّت الإدارة الأميركية ووزارة الدفاع ناقوس الخطر بشأن تنامي التهديدات التي تطرحها الصين في مختلف المجالات، ويظن قادة سابقون وحاليون في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ أن الصين قد تقرر إطلاق تحرك عسكري ضد تايوان خلال السنوات الست المقبلة. لكنّ أكبر ميزانية تستفيد منها البحرية الأميركية تعجز عن تقوية برنامج بناء السفن لتحقيق أبسط أهداف الحكومة في هذا المجال.

نتيجةً لذلك، تتابع البحرية الأميركية وقف تشغيل السفن بوتيرة أسرع من بنائها، فهي تستغني عن هياكل كلّفت مليارات الدولارات بسبب عجزها عن إصلاحها، فتصبح بذلك أقل مستوى من الصين وحتى قوى أصغر حجماً، مثل إيطاليا وفنلندا. نجحت هذه الأخيرة في بناء أنواع قوية وجديدة من السفن كتلك التي أمضت الولايات المتحدة عقوداً طويلة وهي تحاول بناءها لكن بلا جدوى. يقول كريس باسلر، مسؤول بارز في «مركز تقييم الاستراتيجية والميزانية» كان يتولى سابقاً دوراً قيادياً في «مديرية الابتكار ومتطلبات التكنولوجيا والاختبار والتقييم» في البحرية الأميركية: «بعدما صرفت القوات البحرية طاقة كبرى لمحاولة تحسين برنامج «سفن القتال الساحلية» لكن من دون تحقيق النتيجة المنشودة، تابعت دول أخرى التقدم وبَنَت مجموعات متطورة وقوية وأصغر حجماً من الفرقاطات والطرادات».

ينجم جزء من مشاكل الولايات المتحدة عن طريقة تصميم السفن في القوات البحرية، فقد أدت التخفيضات التي فرضها البلد بعد حقبة الحرب الباردة إلى تباطؤ بناء السفن الجديدة على جميع المستويات، ثم ضغط القطاع الخاص المتدهور على إدارة الرئيس كلينتون لاستلام المزيد من مشاريع الهندسة والتصميم، علماً أن البحرية الأميركية كانت تتولى هذا النوع من المهام تاريخياً. سبق أن صمّمت «قيادة أنظمة البحار البحرية» والمختبرات المرتبطة بها سفناً ناجحة، منها طرادات من فئة «تيكونديروغا» والسفن الهجومية البرمائية «واسب»، وفي محاولةٍ لتخفيف التكاليف في أواخر التسعينيات، خفّضت القوات البحرية هذه الهندسة الداخلية وقلّصت طاقم الهندسة بنسبة 75%، فتراجع عدد عناصره من 1200 إلى 300.

لكن يتعلق أكبر اختلاف قائم مع الصين اليوم بقدرات بناء السفن على الأرجح، حيث تملك الصين عشرات الأحواض الشاسعة لبناء السفن وتستطيع بفضلها أن تبني سفناً حربية وتجارية كبرى، وفي المقابل، لا تملك الولايات المتحدة إلا سبعة أحواض مماثلة لبناء سفن حربية كبرى، فقد ترافق شحّ القدرات لهذه الدرجة مع تداعيات عدة، ونظراً إلى زيادة الفئات التي تحتاج إلى تصليح دائم، تقبع السفن في الرصيف البحري لسنوات قبل الالتفات إليها، وفي أواخر 2020، قررت البحرية الأميركية وقف استخدام السفينة الهجومية البرمائية «بونهوم ريتشارد» التي كلّفت 4 مليارات دولار بعد نشوب حريق فيها حين كانت ترسو في سان دييغو. صدر هذا القرار لأن قاعدتها الصناعية كانت أضيق من أن تتحمل عملية إعادة البناء.

تراجع عدد أحواض بناء السفن العامة والخاصة على مر العقود، مما أدى إلى انحسار المنافسة وإضعاف القدرات. لن تقوم تلك الأحواض بأي استثمارات في البنية التحتية من دون تقديم طلبات مفصّلة، وتخسر شركات البناء العمّال الموهوبين والمهارات العالية والمتعاقدين من الباطن إذا لم يكن تدفق الطلبات ثابتاً، وعلى عكس ما يحصل في الصين، لا يمكن الاتكال على عدد كبير من السفن التجارية لتعويم قطاع بناء السفن الأميركي، حيث يُبنى نحو 90% من مجموع السفن التجارية اليوم في كوريا الجنوبية واليابان والصين.

كذلك، لن تكون أعداد الأحواض الجافة كافية، لا سيما إذا قررت البحرية الأميركية توسيع أسطولها جدّياً، فقد أصبحت البنية التحتية قديمة وحالتها سيئة: يُستعمل «الحوض الجاف رقم 1» في حوض «نورفولك» البحري منذ عام 1833 مثلاً، وقد اكتمل أجدد حوض جاف في أربعة أحواض لبناء السفن التابعة للبحرية الأميركية في عام 1962، فيثبت الوضع الراهن إذاً أن البلد سيحتاج إلى 20 سنة تقريباً لمعالجة أزمة الصيانة الحالية في القوات البحرية.

ما الذي يمكن فعله في هذه الظروف؟ يظن البعض أن واشنطن يجب أن تصرف أموالاً إضافية لحل المشكلة من خلال زيادة ميزانية البحرية الأميركية مثلاً، والتخلي عن «قاعدة الأثلاث» التقليدية التي تُوجّه تقسيم موارد الميزانية بين الجيش والقوات الجوية والبحرية. يقضي حل آخر بإعادة بناء قدرات الهندسة والتصميم داخل «قيادة أنظمة البحار البحرية»، وفي الحد الأدنى، تبرز الحاجة إلى بناء نماذج أولية ناجحة من أنظمة فرعية أساسية قبل إضافتها إلى تصميم أي سفينة، ويُفترض أن تتوسع قواعد الانضباط قبل إطلاق أي برنامج جديد لبناء السفن رسمياً، لضمان تقييم كل تكنولوجيا جديدة بدرجة كافية.

لكن مثلما يشتدّ زخم حاملات الطائرات بعد انطلاقها رغم تحركها البطيء، لا مفر من أن تزيد صعوبة توجيه عملية التخطيط ووضع الميزانية الأميركية أو وقفها بعد انطلاقها، لا سيما إذا بدأت الأموال تتدفق لفئة جديدة من السفن، ولا ننسى أيضاً أن أحواض بناء السفن التي تهدف إلى جني الأرباح في القطاع الخاص تؤثر بشدة على تصميم السفن الجديدة وبنائها، وتُمهّد هذه العوامل كلها لكارثة حتمية.

يقضي حل مباشر بوضع خطط دقيقة وطويلة الأمد لبناء السفن، مع أن هذا الخيار يبقى صعباً في ظل تقييمات الميزانية السنوية، وتسمح هذه الخطط للقطاع بتكثيف استثماراته، وتقوية قدراته، وتوظيف العمال وتدريبهم، كذلك، تحتاج القوات البحرية إلى توجيه القطاع بنفسها والتعاون معه لمساعدته في فهم المهمة التي تريد البحرية تنفيذها. تؤدي هذه الجهود في نهاية المطاف إلى تخفيف النفقات وتفعيل العمليات، تزامناً مع زيادة السفن التي تُصلِح الأعطال في جميع الفئات وتتابع دعم قاعدتها الصناعية.

لكن يجب أن تتماشى أي حلول محتملة لمشاكل بناء السفن مع الأجندة السياسية الخارجية والمحلية، وتظن إدارة بايدن أن الولايات المتحدة مضطرة لكبح طموحات الصين، على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية، من خلال زيادة قوتها محلياً والتعاون مع الحلفاء خارجياً، وإذا أرادت الحكومة الأميركية التصدي لاستثمارات الصين الصناعية وقدرات التصنيع فيها، وتحسين قطاع البحث والتطوير، وتوظيف المزيد من العمال البارعين، فستكون أحواض بناء السفن أفضل نقطة بداية لإطلاق هذه الجهود.

بعد تراكم الإخفاقات على مر أكثر من عشرين سنة، بدأت البحرية الأميركية تلجأ إلى تدابير محددة لسد الثغرات القائمة، لكن يتراجع احتمال أن يتوسع الأسطول في المستقبل القريب، مع أن الصين ستصبح أكثر قوة في تلك المرحلة على الأرجح.

لكن لن ينجح أي حل قصير الأمد في إصلاح إخفاقات قائمة منذ عقود للحفاظ على سلامة القوات البحرية. تلقى البحارة الأميركيون وعوداً بالحصول على سفن حربية، لكنهم اضطروا للتعامل مع سفن قديمة، ويجب أن يعترف صانعو السياسة الأميركيون بهذه المشاكل ويعملوا على إصلاحها في أسرع وقت.