داخل الاتحاد الأوروبي، غالباً ما تُعتبر إيطاليا مصدراً للمشاكل، فهي غير جديرة بالثقة مالياً، وغير مستقرة سياسياً، ويستمر فيها الركود الاقتصادي، لكن بعدما أساء وباء كورونا إلى الاقتصاد في كل مكان، يتوقع المحللون الآن أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي في إيطاليا بنسبة 4.5% في عام 2021، وبالنسبة نفسها تقريباً في عام 2022، وداخل مجموعة الدول الصناعية السبع، تحتل إيطاليا المرتبة الثانية بعد بريطانيا من حيث الأداء، وما كانت هذه التوقعات الاقتصادية التفاؤلية لتصبح ممكنة على الأرجح لولا القروض والهبات التي تلقّتها إيطاليا لمعالجة أزمة كورونا وبلغت قيمتها 191 مليار يورو: هذا المبلغ هو جزء من أكبر حزمة حوافز في منطقة اليورو على الإطلاق.

يقال إن الشجاعة تضمن المضي قدماً، لكن يفضّل الاتحاد الأوروبي على ما يبدو النظام التكنوقراطي الفاعل، ولو اقترح شخص آخر غير رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، وهو رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق، خطة تعافي طموحة بقدر اقتراح إيطاليا أمام المفوضية الأوروبية، كانت هذه الفكرة ستُعتبر على الأرجح مجرّد مزحة، فقد قدّمت ألمانيا ودول أخرى اقتراحات استثمارية ذات طابع تقليدي لمعالجة تداعيات الوباء بطريقة مباشرة، لكن قرر قادة إيطاليا استعمال الحوافز المالية لرفع إنتاجية البلد المنخفضة تاريخياً، وتحسين قوة تحمّل القطاع الصحي، وتسريع الانتقال إلى الطاقة الخضراء، وتطبيق إصلاحات بنيوية مهمة سياسياً، وحتى الآن، نجح دراغي في الحفاظ على ائتلاف حكومي واسع ومتنوع ووجد المساحة اللازمة لتقديم التنازلات، وفي النهاية، سيرغب كل حزب في المشاركة في إدارة أموال الاتحاد الأوروبي.

Ad

من المتوقع أن تصبح النتائج الاقتصادية لهذه السياسات جزءاً مهماً من إرث دراغي على المدى الطويل، لكن بدأت حكومته أيضاً تعمل على تقوية السياسة الخارجية الإيطالية بعد ترسيخ مكانتها محلياً، إذ ينجح دراغي على ما يبدو في تجديد الرغبة في التكامل الأوروبي، والتقرّب من الولايات المتحدة، والاعتراف بدور روما في المنافسة المتصاعدة بين الصين والغرب، وفي حين تُركّز فرنسا وألمانيا على الانتخابات هذه السنة وفي السنة المقبلة، تحرص إيطاليا على زيادة تأثيرها على شؤون أوروبا الداخلية وتعزيز تواصلها مع العالم.

زعيمة في أوروبا

بالإضافة إلى التعاون مع الولايات المتحدة في المسائل البيئية، أصبحت إيطاليا مؤهلة لقيادة الدول الأوروبية لإصلاح العلاقات العابرة للأطلسي، وزادت صعوبة تصحيح تلك العلاقات بسبب خلافات قديمة (منها دعم ألمانيا لمشروع خط الأنابيب «نورد ستريم 2»، وتأييدها لعقد اتفاق استثماري بين الاتحاد الأوروبي والصين)، ونتيجة الاستياء العارم من الانسحاب الأميركي من أفغانستان وإقصاء فرنسا من الاتفاق الدفاعي بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة، لكن مقارنةً ببرلين ولندن وباريس، لم تكن روما بعيدة عن واشنطن يوماً، فقد دافع الوزراء في الحكومة الإيطالية عن قرار واشنطن بالانسحاب واعترفوا بتضحيات القوات الإيطالية في أفغانستان حيث شاركت إيطاليا في العمليات طوال عشرين سنة. ولم تتأثر إيطاليا بقدر نظرائها الأوروبيين بتدهور العلاقات في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ورغم موقف ترامب العدائي من حلف الناتو، حافظت إيطاليا على التزاماتها العسكرية مع الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى، وفي النهاية، حصلت روما على نفوذ قوي لتحسين العلاقات العابرة للأطلسي بفضل موقفها الإيجابي من واشنطن.

في مجال الدفاع الأوروبي تحديداً، كانت إيطاليا أكثر تجاوباً من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى مع مخاوف الولايات المتحدة، فأدى قرار واشنطن بإنهاء حربها في أفغانستان وازدراؤها الواضح لفرنسا إلى تجدّد الكلام حول الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية التي تشير عموماً إلى قدرة أوروبا على الدفاع عن نفسها والتدخّل في مناطق تؤثر مباشرةً على المصالح الأوروبية لكن لا تعطيها الولايات المتحدة الأولوية. في واشنطن، أدى هذا الموضوع إلى التساؤل حول أي أضرار محتملة على الدفاع الأميركي، فتملك روما إذاً فرصة قيّمة لردم الهوة بين الطرفَين، وتستفيد إيطاليا من روابطها القوية في قطاع الدفاع الأميركي (يستضيف البلد مراحل التجميع الأخيرة لطائرة «ف-35» من إنتاج الشركة الأميركية «لوكهيد مارتن»)، وتتعاون إيطاليا والولايات المتحدة وبريطانيا معاً لتطوير طائرة «تيمبيست»، وبفضل هذه الروابط، تتخذ إيطاليا موقفاً تصالحياً أكثر من نظرائها للسماح لأطراف ثالثة بالانضمام إلى المشاريع الدفاعية الأوروبية، ومن مصلحة روما أيضاً أن تمنع السياسة الحمائية، وتقوي التطور التكنولوجي، وتعزز أمن سلاسل الإمدادات لضمان نجاح الأسواق الدفاعية الأوروبية والأميركية في آن.

سيكون التعاون الوثيق داخل أوروبا وفي أنحاء الأطلسي بالغ الأهمية لبناء سياسة موحّدة تجاه الصين، فقد بدأت الدول الأوروبية تتفق على تشديد موقفها رداً على عدم تعاون بكين خلال أزمة كورونا، وهي تتجه إلى الاعتراف بنقاط ضعف سلاسل الإمدادات والتقنيات الغربية أمام النفوذ الصيني. منذ سنتين فقط، تعرّضت إيطاليا لانتقادات لاذعة حين قررت التوقيع على مذكرة تفاهم مع الصين في إطار «مبادرة الحزام والطريق». اليوم، تتجه روما إلى إبعاد نفسها عن بكين ورسم حدود واضحة بين التعاون والمنافسة انطلاقاً من التغيير الذي أطلقه رئيس الوزراء جوزيبي كونتي خلال ولايته الثانية.

أعلن دراغي صراحةً أن إيطاليا ستعيد النظر بموقفها الداعم لـ«مبادرة الحزام والطريق» من عام 2019، وفي شهر أبريل الماضي، أوقف هذا الأخير عقدَين بين شركات اتصالات إيطالية وشركتَي Huawei وZTE الصينيتَين، وبالتعاون مع الحكومة الفرنسية، أوقفت إيطاليا عملية استحواذ مجموعة صينية على شركة السيارات الصناعية Iveco، وخوفاً على أمن سلاسل الإمدادات، أعاق دراغي استحواذ الصينيين على الشركة الصغيرة LPE المتخصصة بإنتاج الرقائق الدقيقة في ميلانو. هكذا أوضحت إيطاليا موقفها في المنافسة التكنولوجية الناشئة بين الصين والغرب من خلال تقريب سياساتها من الولايات المتحدة والأولويات الأوروبية عموماً.

على صعيد آخر، بدأت روما تُميّز بكل جدّية بين التعاون العملي والتوافق السياسي في مجالات أخرى من السياسة الخارجية أيضاً، فكانت الحكومات الإيطالية السابقة تحمل مواقف مبهمة في هذا المجال، لكن يبدو أن دراغي وجد التوازن المناسب. وَصَف الزعيم الإيطالي خلال مؤتمر صحافي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالحاكم الدكتاتوري، مع أنه شدّد في الوقت نفسه على أهمية التعاون مع القوى الاستبدادية في المسائل الاقتصادية والأمنية الأساسية، حيث طبّقت إيطاليا هذه الفكرة عملياً بعد الكارثة الإنسانية التي شهدتها أفغانستان غداة استيلاء «طالبان» على البلد، فكررت دعوتها إلى إطلاق نقاشات دبلوماسية حول ردّ متعدد الجوانب يشمل الصين وباكستان وروسيا.

باختصار، تبدي إيطاليا في عهد دراغي استعدادها للتعاون مع الأنظمة الاستبدادية لكنها توضح لحلفائها الغربيين حدود ذلك التعاون في الوقت نفسه.

دراغي وتوازنه الدقيق

تعكس سياسة إيطاليا الخارجية القوية وإصلاحاتها المحلية الجريئة تغييراً مرحّباً به، حتى أن روما تبلي حسناً في محاربتها لفيروس كورونا بعدما كانت من أكثر الدول تضرراً في بداية الوباء: أطلقت الحكومة حملة تلقيح ناجحة وتعهدت بتقديم 15 مليون جرعة من اللقاحات بحلول نهاية هذه السنة، لكن لا يخلو الوضع من الشوائب في عالم السياسة الإيطالية، ويتوقف المسار الثابت اليوم على دراغي شخصياً، مما يعني أن انتخاب رئيس جديد للجمهورية في بداية السنة المقبلة قد يؤدي إلى انهيار الحكومة.

على المدى القريب، تتجه إيطاليا إلى إجراء انتخابات في 20 بلدية، بما في ذلك ميلانو ونابولي وروما، فبدأت الحملة الانتخابية تؤجج السجالات السياسية منذ الآن بعدما كانت هادئة نسبياً خلال الأشهر القليلة الماضية، ويحصد حزب «إخوة إيطاليا» اليميني المتطرف، وهو أهم حزب معارِض في الوقت الراهن، تأييد 20% من الناس في استطلاعات الرأي، يليه حزب «الرابطة» القومي بنسبة 19%.

في السابق، اعتبر بعض المحللين أن دراغي هزم الحركة الشعبوية اليمينية واليسارية في إيطاليا حين شكّل ائتلافاً واسعاً يتمسّك بتأييده للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لكن يحرص حزب «إخوة إيطاليا» على كسب زخم إضافي، وستؤدي أي موجة هجرة جديدة إلى أوروبا غداة انهيار الحكومة الأفغانية إلى الضغط على معسكر اليمين الوسطي (يُعتبر حتى الآن مشارِكاً متعاوِناً في الائتلاف الحاكم) لدفعه إلى تشديد مواقفه.

في غضون ذلك، قد يؤدي تنفيذ الإصلاحات البنيوية الأساسية في إيطاليا إلى تأجيج الاستياء وسط فئات اجتماعية أخرى، ما يسمح بتقوية الاعتراضات الشعبوية على سلطة الاتحاد الأوروبي وتجديد النقاشات حول العجز الديموقراطي داخل الاتحاد.

قد يتلاشى تأثير دراغي قريباً نظراً إلى ميل إيطاليا التقليدي إلى خوض تغيّرات سياسية سريعة، فلا تزال هذه الظاهرة مستمرة حتى الآن، لكن يجب أن تُركّز الحكومة على تصميم إصلاحات اقتصادية مستدامة وقادرة على مقاومة جاذبية هذا النوع من الاضطرابات التاريخية، ولن يصبّ نجاح دراغي في مصلحة إيطاليا وحدها، وإذا أعطت إصلاحاته الاقتصادية نتائج إيجابية، فقد تشكّل الحالة الإيطالية خريطة طريق لتعميق التكامل الأوروبي، وإذا حافظت روما على مسارها الراهن في مجال السياسة الخارجية، فقد تصبح في نهاية المطاف قائدة الحملة الرامية إلى إصلاح العلاقات العابرة للأطلسي.

● جيوفانا دي مايو – فورين أفيرز