بين سد أتاتورك وسد النهضة... أوجه تشابه وما بين التجربتين فاصل زمني يمتد إلى ثلاثين عاماً... التجربة الأولى قادتها تركيا في ثمانينيات القرن الماضي مع سورية والعراق المتشاركتين معها في مياه نهر الفرات... والثانية ترفع لواءها إثيوبيا منذ عشر سنوات مضت بشأن "سد النهضة العظيم" مع كل من مصر والسودان. ما يستدعي المقارنة، هو مقاربات صدرت من أديس أبابا تزعم عدم وجود تجربة يمكن مقارنتها بتجربة إثيوبيا... بدعوتها لدولتي المصب للتفاوض حول سد لتوليد الطاقة الكهربائية من نهر تنبع مياهه من أراضيها!
والحقيقة تكشفها وقائع التاريخ، وما يحصل لدول نهر النيل اليوم، سبق أن تعرضت له دول نهر الفرات، فسد النهضة يعيد تجربة سد أتاتورك من جديد.هناك إجماع على أن نهر النيل بالنسبة إلى مصر هو مسألة حياة أو موت، أما بالنسبة إلى إثيوبيا فحق من حقوق "السيادة الوطنية"، وما بينهما مساحة شاسعة من الاختلافات.قد تكون الغلبة في نهاية المطاف "لدول المنبع" التي تتحكم بالمياه كيفما تشاء وتشتهي، لكن الأنهار العابرة للحدود ثروة مشتركة تنظمها وتحكمها قوانين دولية، من هنا فإن الاستئثار بهذه الثروة من تركيا أو إثيوبيا مخالف تماماً لتلك القوانين، ومن شأنه دفع الدول المتشاركة بالمياه إلى الدخول في مواجهات غير محمودة عواقبها بتاتاً، فالحروب من أجل المياه ليست حلاً.
مشروع «الغاب» وسد أتاتورك
بدأ مشروع سد أتاتورك عام 1983 على نهر الفرات الذي يبعد عن الحدود التركية – السورية مسافة 60 كلم وحجم بحيرة السد يستوعب 48 مليارم3 من المياه. هذا السد العملاق كان واحداً من أصل 21 سداً ستقام في جنوب شرق تركيا وما يعرف بمشروع "الغاب"، يغطي مساحة 73 ألف كلم، تكلفته 18 مليار دولار في حينه، ينتج 27 مليار كيلوواط من الكهرباء؛ بعد بناء 19 محطة توليد، وسيعمل على ري مليون وسبعمئة ألف هكتار من الأراضي.وفي شهر يناير 1990 تم قطع المياه عن كل من سورية والعراق مدة شهر كامل من أجل تحويل المياه إلى بحيرة السد وإبقاء فتحات الأنفاق الثلاثة مغلقة طيلة 30 يوماً. الأتراك حينها طمأنوا جيرانهم بأنهم سيبذلون أقصى الجهد في سبيل عدم إلحاق الضرر، وكان تصريح الرئيس تورغوت أوزال مدوياً، وكنت شاهداً على الحدث عندما ذهبت مع حوالي سبعين إعلامياً لتغطية المناسبة... قال "لن تكون المياه سبباً للحروب أو الصراع بين تركيا وجيرانها، وما يردده البعض ليس سوى وهم يراود عقول سقيمة". اجتهد الأتراك بسرد "منافع السد" وبأنه سيحقق عدة فوائد منها: سيمنع حدوث الفيضانات، وسيساهم بتنظيم مجرى المياه، وسيوفر الكميات التي سيحتاجها الجيران.هذا من الجانب التركي، لكن زيارة واحدة إلى مدينة "جرابلس" على الحدود السورية – التركية كانت كافية لمعاينة حجم الأضرار التي لحقت بالري وكمية المياه وزيادة الملوحة والنقص في بحيرة سد الفرات، ناهيك عن الأضرار التي أصابت العراق بشكل أكثر مأساوية. كان القرار التركي واضحاً من أهداف مشروع السد فهم يطمحون إلى تسويق وبيع الفائض من الكهرباء والمحاصيل الزراعية إلى بلدان الشرق الأوسط. أرادوا تثبيت معادلة جديدة وهي أن تركيا صاحبة الحق في السيادة على النهرين (دجلة والفرات) رافضة وصف بغداد ودمشق بأنهما مشتركتان في مياه النهر... وكما أوضح هذا التوجه الرئيس سليمان ديميريل في حينه، أن لبلاده الحق في الاستفادة القصوى من مياه أنهارها الوطنية حتى آخر نقطة حدودية. اعتبر الأتراك إنجاز هذا المشروع العملاق مفخرة لهم فقد بنوه بمالهم الخاص دون الحاجة لطلب تمويل خارجي. لم تشأ أنقرة الدخول في أي نوع من المساومة مع جيرانها بشأن "حقوق سيادتها" ووفق تعريفهم، فإن نهر الفرات ليس نهراً دولياً، إنما مياهه "عابرة إلى ما وراء الحدود" وعليه فليس هناك اتفاقيات دولية تلزمهم بتحديد الحصص، ويكفيهم "اتفاق صداقة وسلام"، بالتالي لا داعي لإبرام اتفاقية بين الدول الثلاث.اتسمت تلك السياسة بالتلاعب بالألفاظ ونزع صفة "الأنهار الدولية" عنها ونعتها بالأنهار العابرة للحدود! ولجأت إلى المراوغة والتهرب من توقيع أي اتفاق ملزم لها بتحديد حصص المياه!ووجهة نظرهم تقوم على أنه لا يوجد مبرر لعقد اتفاقية، فالعلاقة مع الجيران جيدة، ونهر الفرات عابر للحدود ووضعه غير مرتبط بالمعاهدات القوانين الدولية، فهو مصدر وطني لتركيا مثله مثل النفط لدى دول الخليج العربي.عملت تركيا على نسف تجاهل أية حقوق للجيران، وأعلنت أن مياه نهري دجلة والفرات لا تنطبق عليها أية قوانين دولية، ولا تخضع لتوزيع الحصص إنما للاستخدام الأمثل، ومياه النهرين حق طبيعي لها وليسا بنهرين دوليين، أي أنهما ينبعان ويتغذيان من أراضٍ تركية ويجريان فوق أراضيها! وبعبارة واضحة تقول، إن الدول الواقعة أسفل مجرى النهر ليس لها أية حقوق!نهر دولي أم عابر للحدود؟
كان الاتفاق المرحلي والمؤقت المبرم على 1987 بين تركيا وسورية يقضي بتمرير 500 م3 من المياه في الثانية، تأخذ دمشق 42% وتترك الباقي يذهب للعراق... لكنه تعرض إلى انتكاسة ولم يكن محل التزام فاستعيض عنه بلجنة ثلاثية مشتركة عام 1980 (تركيا – سورية – العراق) عقدت 16 اجتماعاً متتالياً وعلى مدى سنوات كان آخر اجتماع لها عام 1992 وهذه اللجنة حلت محل الاتفاق المرحلي والمؤقت، لكنها أخفقت بالتوصل إلى حل لإن الخلاف كان يدور حول نقطتين أساسيتين، الأولى تعريف نهر الفرات، هل هو نهر دولي أم عابر للحدود؟ والثاني هل مصدر مياهه الوحيد هو تركيا أم أن هناك روافد تغذيه من أراضٍ سورية وعراقية؟ لم تكترث تركيا للمطالبات المتكررة من جيرانها بالالتزام بتحديد الكمية المناسبة والمعقولة من المياه لكل بلد متشاطئ معها... ولم تعترف بقواعد وأسس القانون الدولي والذي يقر بحق كل دولة متشاطئة على نهر دولي "بحصة عادلة ومعقولة"... ولم تعط بالاً لما ينص عليه القانون الدولي بأنه يتوجب عليها قبل ملء خزان السد على الأنهار المشتركة أن يتم عبر اتفاق ملزم، لقد نقضت تركيا تماماً، فكرة مبدأ السيادة المطلقة في المياه الدولية، وهو مبدأ مرفوض ولا يعمل به.إثيوبيا تبني ومصر تفاوض
الحالة الإثيوبية تتماهى مع التجربة التركية في العديد من الأوجه، "فسد النهضة العظيم" أدارته أديس أبابا منذ لحظة البدء في عام 2011 تحت سقوف حددتها وسارت عليها، تقوم على فلسفة خاصة بدولة المنبع، وهي التملص من أي التزام بتحديد حصص المياه المقررة لمصر والسودان وفق اتفاقيات سابقة منها اتفاقية 1902 و1929 و1959، باعتبار أن من حقها استخدام مياه النهر كيفما تشاء لأغراض الزراعة وتوليد الطاقة.لجأت إثيوبيا إلى سياسة التسويف والمماطلة، فكانت أياديها تبني وفق المخطط المرسوم للسد، في حين أن اليد أخرى وهي مصر كانت منهمكة ومشغولة بالتفاوض... وكل ذلك بهدف كسب الوقت... تغيرت أحجام بحيرة السد، بعد أن كانت 14 مليار متر مكعب من المياه أصبحت 74 ملياراً.استغلت الظروف السياسية المتقلبة التي مرت بها مصر بالدرجة الأولى ثورة 25 يناير 2011 ما تبعها من تطورات، وإن استمالت السودان في بادئ الأمر إلى صفها باعتبارها من "المستفيدين" حسب التعبير الرائج عند الإثيوبيين. ومع التغيير الذي حصل على مستوى القيادات الحاكمة في كل من مصر وإثيوبيا، تحسنت لغة الخطاب المتبادل، وبات المشروع الإثيوبي مقبولاً من الجانب المصري، ومن محطة إلى أخرى وصولاً للقمة ومن بعدها إلى الاتفاق التاريخي (اتفاق المبادئ) عام 2015 في الخرطوم بين رؤساء الدول الثلاث والتعهد بعدم الإضرار بمصالح شعوب دولتي المصب.كانت إثيوبيا وعلى الدوام تطوّق عنق مصر برفضها أي اتفاق تم أثناء الحقبة الاستعمارية وهي بذلك تلغي عملياً أي التزام بالحصص المقررة "55.5 مليار متر مكعب لمصر و 18 مليار متر مكعب إلى السودان". لم تخفِ أديس أبابا نواياها بل جاهرت بها أمام العالم، فمن يتحدث عن "حصص ثابتة" عليه أن ينساها فإثيوبيا ليست ملزمة بها وعلى مصر التخلي عن اتفاقية 1959 الموقعة مع السودان!. بالنسبة لها "سد النهضة العظيم" مشروع وطني قومي يهدف لتحقيق نهضة عملاقة، تعيد لها مكانتها وتجعل منها دولة رائدة على مستوى القارة الإفريقية، وهي نفس اللغة التي استخدمتها تركيا أثناء ملء سد أتاتورك.ستمضي إثيوبيا قدماً بملء الخزان ووفق ما رسمت له، فالتوقف عن الملء الثاني سيكلفها مليار دولار وهو رقم صعب نتيجة الوضع الاقتصادي المتردي الذي تعيشه.عشر سنوات من عمر السد ومصر والسودان تفاوضان وإثيوبيا تبني وتستكمل مشروعها، وفي النهاية فرضت نفسها كأمر واقع إلى أن أوصلت الفرقاء المتشاركين معها إلى حائط مسدود، فلا التراجع بات ممكناً ولا استمرارها سيعفيها من المخاطرة والمسؤولية المترتبة عليها من وراء حجز كميات المياه المتدفقة عبر النيل الأزرق لكل من السودان ومصر؟مواصفات سد النهضة
يقع السد في منطقة "بني شنقول" على الحدود السودانية، مساحته ستصل عند إكتمال الملء والتخزين إلى 1874 كيلومتراً وأقصى ارتفاع للمياه إلى 640 متراً فوق سطح البحر وإجمالي الكميات المخزنة إلى 74 مليار متر مكعب والسعة التخزينية الحية 59 مليار متر مكعب، وسيتم تركيب 16 توربيناً بحيث تنتج 375 ميغاوات من الكهرباء، وبذلك يكون أكبر سد مائي في إفريقيا، وهو أكبر مشروع مائي في تاريخ إثيوبيا والثامن على مستوى العالم، وفي إحصائيات حديثة أشارت إلى وجود 70 مليون إثيوبي من إجمالي عدد السكان البالغ 112 مليون لا تصلهم الكهرباء بعد.وبحسبة بسيطة ولكي يعمل السد بكامل طاقته يجب ملء الخزانات وهوما يحرم مصر والسودان من تدفق 15 مليار متر مكعب من حصتيهما سنوياً ومع كل مليار متر مكعب تخسرها مصر من حصتها المائية تفقد 200 ألف فدان وهذا بخلاف ما سيتعرض له سدا "رويصص ومروى" في السودان وكمية المياه الواردة من الفيضانات المدمرة، وسنوات الجفاف الممتد والتي ستواجه فيها مصر والسودان ظروف بالغة وصعبة جداً.