لا تستطيع أن تعود من (هناك) إلا أن تقارنها بـ(هنا)، فالمقارنة رغم صعوبتها تطاردك فيما أنت تردد بينك وبينك أن تلك عادة سيئة لا تجني منها إلا كثيراً من التعب النفسي، ولكنّ عينيك ترسلان كثيراً من الإشارات إلى عقلك وهي في إجمالها تعيدك إلى تلك العادة نفسها التي دربت نفسك طويلاً على أن تتخلى عنها رغم انتشارها.

تعود إلى هنا حيث أنت، وهناك حيث ترحل بين الفينة والأخرى، ربما لدواعي العمل لا الترفيه والنزهة التي تصدمك بصرامة أنظمتها وقوانينها وتطبيق تلك القواعد في المعيشة اليومية، فالشوارع نظيفة، وهي عملة نادرة في كثير من عواصمنا لا قرانا، ثم الالتزام بتعاليم المرور والسير والصحة وكل الممارسات اليومية الشخصية جداً، تبقى شخصية وخاصة، حتى تتعدى أنت أو غيرك على مساحات الآخرين فتعاقب، والعقاب قد يختلف من الغرامات والمخالفات إلى النظرات المليئة بالازدراء و»القرف» من «بشر» كهولاء لا يراعون إلا أنفسهم فقط، ولا يعرفون أن الكون يتسع للجميع لو التزم كل فرد بما له ويخصه فقط، وراعى الآخرين حوله حتى العابرين منهم سريعاً.

Ad

ترى هي الديموقراطية؟ ربما رغم عيوبها الكثيرة وهفواتها والثقوب الصغيرة التي يتسلل منها الفاسدون والحاقدون والرافضون والمتعالون، نعم هي بهفواتها تجعل من هناك أكثر نظاما واحتراما وصونا لكرامة الإنسان مهما كان لونه أو شكله أو جنسه أو دينه أو طائفته حتى لدى الكارهين له، نعم كثير من النازيين والرافضين للآخرين والكارهين لكل ما لا يشبههم، وأصحاب «الإسلامفوبيا» وكل أنواع «الفوبيا» هم من هناك، ولكن تمنعهم كل الأنظمة والقوانين من الاعتداء على الآخر المختلف، وإن فعل فهناك أنظمة وقوانين، وقليلاً ما تكون «الواسطات» والمحسوبيات والسلطات العليا مسيطرة عليها سيطرة تامة. هذا لا ينكر أن هناك أيضا تخفى المعلومة وتبقى طي الكتمان إلا إذا تقادمت كثيراً أو حتى عند ذاك لا نزال لا نعرف من قتل الرئيس الأميركي كيندي وآخرين كثيرين مثله.

كل تلك نواقص أو بعضها ربما، ولكن هذه هنا هي المشهد الوحيد عينه ولا ثاني ولا ثالث له، هنا تخاف أن يعرف جارك أنك لست من لونه كيف ما كان ذاك اللون! ينتفض هو «ليشتم اللي خلفوك» وتبقى أنت هنا واقفا ليس خوفا منه ولكن من نقص عدالتهم أو عدمها!! هنا إن بحت بأنك لا تتفق مع تلك الهجمات على من يختلف في الرأي فقط، فهو أو هي لم يحملوا المدافع الرشاشة ولا الكلاشنكوف ولا يملكوا طائرات تقصف المدنيين حتى آخر نفس لطفل رضيع، هنا أنت وحدك حتى لو كنت على حق فعليك أن تلتزم الصمت أو أن توصف بالشجاعة أو اللامبالاة وانعدام الإدراك بأن النتائج قد تكون وخيمة، هنا عندما قال والدك كلمته ورحل ففتحت تلك البلاد في أقاصي الشمال أبوابها له وأعطته صفة «لاجئ سياسي» وتمر السنون فيصبح ابنه نائب عمدة للعاصمة، منصب لم يكن يحلم به أبوه ولا جده ولا ابنه الذي لا يزال في بطن أمه.

أليست غريبة تلك الهناك وتبعاتها من احترام لبعض الحريات وصيانة لبعض الكرامات؟! فهي أماني كل من هم هنا وطموحاتهم، تقول هي بصوت مليء بالحزن «لن يكون لك مكان هنا فأنصحك بالرحيل إلى هناك». تعالي فاشتري منزلاً متواضعاً تدفعين ثمنه من تعب الأيام والسنين الطويلة، فهناك ستحفظ لك كرامتك وستصونين آدميتك وتبقين غريبة ربما، ولكن ألست غريبة في الهنا؟ ألست في الهنا تبحثين عن عشة غير مغمسة بكثير من الذل في حين القصور تبنى بأسوارها العالية خوفا ممن هم مثلك هنا؟ وربما بجانب تلك العشة «جنينة» صغيرة تزرعين فيها الريحان والنعناع وكثيراً من الياسمين و«الرازجي» البلدي، تعالي هناك وزوري هنا بدلا من أن تبقي هنا حتى تخافي ظل الكلمة المختلفة عنهم!!!

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.

● د. خولة مطر